تزييف الحقائق

 

 

مدرين المكتومية

 

نعيش في عالم يتغير كل لحظة، خاصة مع انتشار وسائل وتطبيقات التقنية الحديثة، ومُنذُ سنوات ونحن نقرأ ونكتب عن تأثيرات العولمة وما ستُخلّفه من نتائج سلبية على الهويات الوطنية والمحلية، لكن ما لم نكن نضعه في الحسبان أن تتسبب هذه المتغيرات في تزييف الحقائق وتزوير التاريخ، حتى فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر، الذي ما زال البعض على قيد الحياة شاهدًا عليه!!

نجد ذلك في العديد من المنشورات المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكُنا نقول إنها تُرهات و"لعب عيال"، لكن بدا جليًا أن هذا الأمر مُمنهج ومُتعمّد؛ بل ويمضي بوتيرة منتظمة، تستهدف في الأساس خلخلة الثوابت، والتشكيك في كل ما يُحيط بنا، حتى نفقد الشغف والاهتمام نحو حياتنا التي نعيشها، ومن ثم نُصبح بمثابة المسخ، لا هوية نعتز بها، ولا تاريخ نتفاخر به، ولا حاضر نبني على أساسه، وبالتالي لا مستقبل نأمل فيه!

قبل أيام كنتُ أشاهدُ فيلم "عملية مستحيلة" على منصة "نتفليكس" المثيرة للجدل دائمًا بأعمالها الأصلية، وهو فيلم هندي من إنتاج بوليوود، بالشراكة مع نتفليكس، والعمل يتناول فترة التوتر الشديد بين الهند وباكستان بعد الحرب التي دارت بينهما وخسروا على إثرها "باكستان الشرقية" المعروفة الآن باسم بنجلاديش. الفيلم يقدم شخصية "طارق" ضابط المخابرات الهندي، الذي ينتحل صفة مواطن باكستاني مسلم (يتضح لاحقًا أن اسمه أمانديب سينغ وليس مسلمًا بالطبع)، يعيش بينهم ويصلي معهم في المسجد، بل ويُظهر عداءً للهند!

في الحقيقة الفيلم، من حيث جودة الإنتاج والحبكة الدرامية، يحصل على درجة عالية، فمشاهد الفيلم مُعبرة عن واقع الحياة وطبيعة المعيشة في تلك الفترة، والتي أعقبت إعلان الهند عن تطوير أول قنبلة نووية، الأمر الذي أثار قلق باكستان، ودفعها إلى خوض سباق تسلح مع جارتها، رغبة منها (أي باكستان) في امتلاك السلاح النووي.

يروي الفيلم محاولة ضابط المخابرات الهندي المُتنكر في هيئة شاب مسلم يعمل خياطًا، في ورشة خياطة تصنع الملابس العسكرية لقادة الجيش الباكستاني، وهو المدخل الذي من خلاله يُمارس مهمته التجسسية، ويستطيع استننتاج معلومات من بعض الأقاويل التي حرص بدهائه على انتزاعها من بعض القادة العسكريين، الذين قابلهم خلال فترة عمله في خياطة ملابس الجيش.

الحبكة الدارمية جيدة كما ذكرت، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الحب التي يقع فيها مع فتاة باكستانية مُسلمة على قدر عالٍ من الجمال، لكنها كانت مُصابة بالعمى، ولا شك أن ذكاءه كجاسوس توافق مع هذه الفتاة، حيث إنها كفيفة لا تُبصر، ومن ثم كان يستطيع القيام بأعمال تجسسية كثيرة في المنزل، مثل كتابة التقارير والرسائل الجاسوسية، دون أن تلحظ هي ذلك. وقد استغل أيضا الهاتف في ورشة الخياطة لإجراء مكالمات هاتفية مع الضابط المسؤول عنه، وتسريب ما يصل إليه من معلومات.

غير أنه في المقابل، يعج الفيلم بالأكاذيب والمُغالطات التاريخية، وخاصة المشاهد التي تُظهر تفوُّق الهند على باكستان، ففي كل المشاهد تقريبًا يظهر المسؤول الهندي على أنَّه حكيم وراشد في جميع قراراته، علاوة على إبراز الروح الوطنية الهندية في الفيلم، سواء من خلال المشاهد المؤثرة مثل مشهد مقتل الجاسوس (البطل) في نهاية الفيلم بعشرات الرصاصات، وتصوير الأمر على أنَّه "شهيد الوطنية"، أو من خلال الأغاني الوطنية التي تمجّد الهند.

ومن جهة أخرى، يُظهر الفيلم جميع المسؤولين في باكستان بصورة سلبية، إما أنهم ماكرون أو سفهاء أو يتناولون الطعام بشراهة، أو يقارعون الخمر! والأسوأ من ذلك أنهم أساؤوا في هذا العمل إلى العالم الكبير عبدالقدير خان المُلقب بـ"أبو القنبلة النووية الباكستانية"، وهو العالم الشهير الذي استعانت به بلاده لتطوير المشروع النووي، وقد نجح! غير أنَّ الفيلم يُظهر الأمر على أنه لم ينجح حتى مشهد النهاية، وهذا دهاء من صُنّاع الفيلم، إذ لا يمكنهم إنكار مثل هذه الحقيقة، لكنهم في الوقت نفسه يتركون المشاهد- لا سيما الشباب غير المُلم بالتاريخ- في جهل تام، حيث لم يوضح الفيلم أن باكستان أيضًا نجحت في تطوير قنبلة نووية في غضون 6 سنوات فقط، رغم أنَّ هذا العمل يستلزم على الأقل 15 سنة!

الفيلم كغيره من أفلام "نتفليكس" المشابهة، يُمجّد دولة الاحتلال الإسرائيلي، بإظهار قوة جهاز مخابراتها "الموساد" وقوة سلاح الجو لديها، وأن الإسرائيليين هم حُماة السلام، في مُغالطة تاريخية وتزييف صارخ للواقع، لذلك لا تجرؤ نتفليكس على إنتاج فيلم يُظهر مُعاناة الفلسطينيين من الجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 عقود، ولن تجرؤ نتفليكس على انتقاد إسرائيل، فمقصلة "معاداة السامية" مُعلقة للجميع، وهي الأكذوبة الكبرى التي باتت تسري في أنحاء العالم.

لذلك أقول للجميع، وخاصة الآباء، احرصوا على تعليم أبنائكم التاريخ، وتوعيتهم بتاريخ منطقتنا والعالم، فمن المؤسف أن نجد بين الشباب في مراحل الدراسة والجامعة، بل وحتى في سوق العمل، من يجهل حقيقة الأوضاع من حولنا.. فالمعرفة والتعليم والتثقيف هي وسائلنا لمحاربة التزييف والتزوير الذي يمضي على قدم وساق من حولنا.