الثورات التكنولوجية.. والحفاظ على هويات المجتمعات من الانسلاخ

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

الثورات التكنولوجية التي تجتاح العالم تمثل بداية حقبة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وتُحدث تغييرات عميقة مستمرة في العلوم والتكنولوجيا والطب، وفي أنماط الحياة والعادات والتقاليد وفرص العمل والإنتاج. ومثلما فعلت الآلة البخارية والكهربائية عند قيام الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وامتداداتها في أوروبا وبعد ذلك في العالم؛ ففي تلك الفترة بدأت الدولة الرائدة بريطانيا باختراع المحركات البخارية التي تعمل بالحرارة والتي سرعان ما تحولت إلى آلات سريعة ومنتظمة لا تعرف الكلل، إذا ما تم تزويدها بالفحم والصيانة اللازمة.

والثورات التي تكتسح العالم هي ثورات غير مسبوقة، وتختلف عن الثورتين الصناعية الأولى والثورة الصناعية الثانية. فالثورات الحالية وما تليها تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة، وحجم المعرفة يتضاعف بشكل مذهل، وسوف يزيد حجم المعرفة عما تراكم من معرفة إنسانية منذ بداية البشرية.

الثورة الصناعية الأولى كانت تعتمد على البخار، والميكانيكا، والفحم، والحديد، ورأس المال العصامي، وعلى قوة الدولة العسكرية المباشرة لتأمين المواد الخام، وفتح الأسواق من خلال الاحتلال العسكري السافر. والثورة الثانية كانت تعتمد على الكهرباء، والنفط، والطاقة النووية، وفن الإدارة الحديثة، والشركات الوطنية المساهمة.

أما الثورات الحالية، فتعتمد أساسا على العقل البشري، والإلكترونيات الدقيقة، والهندسة الحيوية، والذكاء الصناعي، وتوليد المعلومات حول كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة واختزانها واستردادها وتوصيلها بسرعة متناهية بل آنية، وعلى الاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة.

ولأنَّ العقل البشري وليس القوة العضلية أو الميكانيكية هو العماد الأول لهذه الثورات، ولأنه يُمثل طاقة متجددة لا تنضب، فإنَّ هذه الثورات سوف لن تكون حكرا للمجتمعات الكبيرة المساحة والضخمة السكان أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية، بل إنها ثورات يمكن لجميع شعوب العالم أن تخوض غمارها -سواء أكانت كبيرة أم صغيرة- إذا ما أحسنت إعداد أبنائها تربويا وعلميا وتدريبيا واجتماعيا لذلك. والدليل على ذلك ما حققته سنغافورة مثلا وهي الدولة متناهية الصغر في المساحة وعديمة الموارد الطبيعية، لكنها استطاعت استثمار وتطويع مواردها البشرية المتاحة بشكل علمي صحيح، مما مكَّنها من أن تكون على قائمة الدول الخمس في العالم في ثورة المعلوماتية التكنولوجية.

وإذا لم نتمكَّن من استيعاب تكنولوجيا العالم المتقدم، فإنَّ هذه الثورات سوف تنطوي على أذى كبير لنا؛ لأنها سوف تُحِيل معظم الأنشطة الاقتصادية والوظائف الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها، وتكون التكنولوجيا الحديثة عِبئا ثقيلا على كواهلنا. وفي حالة استيعابها وتوطينها وتوظيفها، فإنَّها ستنطوي على منفعة كبيرة لنا، وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية سوف تلعب دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات التكنولوجية الحاصلة. الحكومة وأدواتها المختلفة هي من أول عناصر النجاح وعلى الجهات المسؤولة ضمان مهارات التعلم والتدريب، والانطلاق المعرفي المستمر، وضرورة قبول الأخطاء والاعتراف بها؛ وذلك لأنَّ المنهج التجريبي يقتضي الخطأ، والولوج من خلاله إلى النجاح بدلا من حشو عقل الإنسان الصغير بمعلومات تجاوزها العلم والزمن.

كما على المجتمع والأسرة أيضا زرع قيم العمل والصبر والمثابرة والأنَّاة في أبنائها؛ لأنَّ المستقبل هو لأولئك الذين عملوا ومنحوا لأنفسهم ولأبنائهم فرص الإبداع والابتكار والتجربة والصواب والخطأ.

لكن من جهة أخرى، يترتب على هذه الثورات التكنولوجية الكاسحة أو يصاحبها تداعيات كثيرة يكفي أن نذكر منها:

1- التغير الاجتماعي المتسارع، ونعني بذلك أن القيم والمعايير والعادات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية تكون عرضة للتغير والتحول والتبدل عدة مرات، لا بين جيل وجيل كما كان عهدنا في الماضي، ولكن في حياة نفس الجيل وبطريقة مستمرة. ولن يقتصر هذا التغير الاجتماعي المتسارع على من يشاركون أو يصنعون هذه الثورات والتي ستليها، ولكنه سيشمل كل شعوب الارض.

2- الانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي المتسارع؛ فوسائل الاتصال السريعة بل والآنيّة تعبر الحدود بلا حدود، ولا قيود برسائلها ومضامينها وأفكارها من اي مجتمع لأي مجتمع آخر، وسوف تصبح وسائل الإعلام والرقابة التقليدية أدوات بدائية عديمة الكفاءة وقليلة الفاعلية في منع أو تحصين الفرد والمجتمع ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية والعادات الوافدة من مجتمعات وثقافات أخرى.

إنَّ التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق الإعلامي الثقافي الوافد هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي، وفِي قدرة وسائل الإعلام والتعليم والثقافة الوطنية على تقديم بدائل أكثر جدية ومصداقية وجاذبية. وهذه مهام تتجاوز قدرات أنظمة التعليم والإعلام والثقافة والاجتماع كما عرفناها في الماضي، أو كما نعرفها الآن في مجتمعاتنا، فهذه المهام تتطلب أجهزة خلَّاقة ومقتدرة إذا كان لها أن تحافظ على هُويات مجتمعاتها الحضارية القومية الثقافية وتحفظها من المسخ والذوبان، وفي نفس الوقت الذي لا يتحول فيه المجتمع إلى متحف تاريخي تراثي منغلق وجامد.