تحولات سوق العمل في عصر الذكاء الاصطناعي

 

 



مرتضى بن حسن بن علي

 

في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، يشهد سوق العمل العالمي تحولات جذرية تُهدد الوظائف التقليدية بينما تفتح آفاقًا عديدة لفرص جديدة تتمتع بمهارات مختلفة.

وفي عُمان والدول العربية؛ حيث لا تزال الغالبية العظمى من المواطنين يعملون في الوظائف التقليدية التي هي مهددة بالانقراض، تبرز تحديات كبيرة تتطلب استجابة استباقية من الحكومات لخلق فرص عمل جديدة تحتاج إلى مهارات مختلفة وتدريب واعادة تدريب جميع الموظفين الحاليين والمتوقع دخولهم لسوق العمل على المهارات الجديدة المطلوبة في سوق العمل المتبدل. وعكس ذلك فان عمليات تسريح الموظفين سوف تأخذ منحنيات جديدة وتقفز البطالة إلى معدلات هائلة جدًا.

الوظائف التقليدية المهددة بالاختفاء

  1. الوظائف الإدارية والكتابية، وهي الوظائف التي يشغلها اعداد كبيرة من المواطنين-مثل كتَبة البيانات وموظفي البنوك التقليديين، وموظفي الحسابات البسيطة وموظفو مراكز الاتصال التقليدية "Call Centre"، بسبب التحول إلى الخدمات الإلكترونية والرقمية والذكاء الاصطناعي.
  2. وظائف التصنيع اليدوي: مع انتشار الروبوتات والآلات الذكية، ستتراجع الحاجة إلى العمالة غير الماهرة التقليدية وعمال المخازن التقليدية وعمال البناء وتنظيف الشوارع وغيرها من الوظائف المماثلة ويحل محلها الروبرتات اللوجستية.
  3. الوظائف الزراعية التقليدية: بسبب تقنيات الزراعة الذكية والزراعة الحيوية والآلات الحصادة الذاتية.
  4. وظائف البيع بالتجزئة: مع نمو التجارة الإلكترونية، ستتراجع الحاجة إلى البائعين في المتاجر التقليدية، ومع انتشار وسائل الدفع الذاتي، ستختفي وظائف موظفي استلام المبالغ "الكاشير".
  5. وظائف الوساطة: مثل سماسرة العقارات، بسبب انتشار المنصات الرقمية التي تربط المستهلكين مباشرة بالخدمات.
  6. وظائف النقل التقليدية، مثل سائقي السيارات الخاصة وسيارات الأجرة والشاحنات، بسبب تطور السيارات ذاتية القيادة.
  7. وظائف تعبئة الوقود بسبب انتشار السيارات الكهربائية.

أما الوظائف التي سوف تزيد الحاجة إليها فهي كما يلي:

1. وظائف التكنولوجيا المتقدمة: مثل مطورو الذكاء الاصطناعي، وخبراء البيانات الضخمة، ومهندسو إنترنت الأشياء (IoT).

2. وظائف الطاقة المتجددة: مثل فنيو الطاقة الشمسية، والطاقات الأخرى ومهندسو كفاءة الطاقة.

3-الوظائف الصحية التخصصية: أخصائيو الطب الجيني، وفنيو الروبوتات الجراحية، ومقدمو الرعاية عن بُعد (Telemedicine).

4. وظائف الاقتصاد الرقمي: مثل المسوِّقون الرقميون، ومصممو الواقع الافتراضي (VR/AR).

5: - خبراء إدارة النفايات، ومهندسو المدن الذكية.

أما استراتيجيات مواجهة البطالة المتوقعة ودور الحكومات فيمكن رصدها كالآتي:

1. إصلاح النظامين التعليمي والتدريبي، وايجاد جيل جديد من المعلمين، من خلال تحديث المناهج لدمج المهارات الرقمية (البرمجة، تحليل البيانات)، وتعزيز التعليم المهني والتقني عبر شراكات مع القطاع الخاص.

2. تشجيع ريادة الأعمال، عبر تمويل المشاريع الناشئة في مجالات التكنولوجيا، وإنشاء حاضنات أعمال.

3-الاستثمار في البنية الأساسية الرقمية، من خلال القضاء على البيروقراطية وتقليل اعداد موظفي الحكومة، تلك الاعداد التي تكلف الحكومات مبالغ هائلة، إلى جانب توسيع نطاق الإنترنت عالي السرعة، وتحويل الخدمات الحكومية إلى منصات رقمية، وكذلك إعادة تأهيل جميع الموظفين الحاليين بصورة شاملة ومكثفة. علاوة على إطلاق برامج تدريبية مكثفة (Upskilling) في المهارات الجديدة مثل الأمن السيبراني.

5. تشريعات مرنة: مثل سن قوانين تدعم العمل عن بُعد كما فعلت الإمارات عن طريق مبادرة "مليون مبرمج عربي"؛ حيث ربطت بين التعليم التقني واحتياجات سوق العمل المتبدلة عبر تدريب الشباب على مهارات البرمجة؛ مما خلق فرص العمل عن بُعد مع شركات عالمية، من دون الحاجة إلى السفر خارج اوطانهم، وتشجيع العمل الحر.

6. حماية الفئات الأكثر تأثرًا: من خلال تأسيس شبكات أمان اجتماعي، وإعانات تدريبية للعاطلين خلال المرحلة الانتقالية.

7- إعادة تشكيل القطاع الخاص؛ حيث إن معظم أنشطته في صيغته الحالية خدمية، ولذا يجب تحويله إلى قطاع إنتاجي.

8- تشجيع الاستثمارات الاجنبية وايجاد بيئة جاذبة للاستثمار وقوانين عمل مرنة وصديقة لجذب الاستثمارات.

دراسة حالة مستقبل الوظائف المصرفية

تشهد الصناعة المصرفية تحولًا جذريًّا مع اتجاه البنوك العالمية لإغلاق الفروع التي تكلفها الكثير من النفقات. وعلى سبيل المثال، تم إغلاق 2454 فرعًا في الولايات المتحدة خلال عام 2023 فقط. وسوف يتم اغلاق الفروع في عُمان وفي المنطقة العربية تدريجيًا، وسوف تتسارع عملية الاغلاق مع تقدم التكنولوجيا.

ومن أسباب الإغلاق: تفضيل العملاء للخدمات الرقمية؛ حيث إن 74% من الشباب العربي يستخدمون التطبيقات المصرفية (استنادًا لتقرير البنك الدولي 2023). وكذلك من أجل تقليل التكاليف؛ حيث ستُوفِّر البنوك الكثير من نفقات التشغيل عبر التحول الرقمي.

أما التأثير على تسريح الموظفين العاملين في البنوك، فمن المتوقع فُقدان 20% من وظائف البنوك التقليدية بحلول 2030، لكن ستظهر فرص في مجالات مثل التكنولوجيا المالية (FinTech) والأمن السيبراني.

وفيما يتعلق بالحلول المقترحة، نقترح إعادة تدريب موظفي البنوك على مهارات التكنولوجيا المالية.

أما التحديات، فيمكن رصدها كما يلي:

1. الفجوة بين التعليم وسوق العمل الذي هو الاخر سوق مشوه؛ حيث إن 52% من خريجي الجامعات العربية يعملون في مجالات لا تتعلق بتخصصاتهم (اليونسكو، 2023).

2. العمالة الوافدة؛ إذ تحتاج الدول الخليجية إلى سياسات فعّالة لاستبدال العمالة المستوردة بالكفاءات المحلية.

3- الفجوة بين الجنسين؛ حيث تُشكِّل النساء 32% فقط من خريجي تخصصات STEM، (تجميع التخصصات الاكاديمية في العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات) في العالم العربي (البنك الدولي، 2022).

4. الثقافة المجتمعية، فلا يزال العمل الحكومي يُمثل "الوظيفة المثالية"، ما يتطلب تغييرًا ثقافيًّا لتشجيع المهن التقنية.

ورغم التحديات، فإنَّ الفرص أكبر من التهديدات إذا تم التعامل مع التحولات بذكاء. ونجاح دول مثل الإمارات والسعودية في تبني الذكاء الاصطناعي (مثل "مشروع نيوم") يُظهر أن المنطقة قادرة على المنافسة. ويتطلب الأمر: تعاونًا ثلاثيًّا بين الحكومات (لوضع السياسات)، والقطاع الخاص (للاستثمار)، والأفراد (للتأهيل المستمر). وكذلك وضع رؤية طويلة المدى تُدمج التكنولوجيا مع الاحتياجات المحلية، كالاستثمار في الزراعة الذكية لتعزيز الأمن الغذائي، إلى جانب الموازنة بين الابتكار وحماية الفئات الهشة لضمان انتقال عادل إلى اقتصاد المستقبل.

وتؤكد التحولات الجارية ان التغيير أمر حتمي، ولكن الاستفادة من الفرص المصاحبة تتطلب رؤية واضحة وتخطيطا استراتيجيا بعيد المدى.

وبناء مستقبل سوق العمل العُماني والعربي يعتمد على التعاون المشترك بين الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، وتبني الابتكار مع الاحتفاظ على العدالة الاجتماعية وضمان انتقال سلس للفئات الضعيفة، والتخطيط المسبق لتكيف التعليم والتدريب، والتوظيف مع متطلبات الثورة التكنولوجية الكاسحة.

إنه زمن التحول الكبير، ولن ينجو إلّا من يستعد له مبكرًا ويستثمر في الإنسان قبل الحجر.

إنَّ سلطنة عُمان أمام فرصة تاريخية لتوليد وظائف جديدة مرتبطة بالرقمنة والطاقة المتجددة والابتكار، لكن بشرط تطوير التعليم الفني والمهني، وتدريب الشباب العُماني على المهارات الرقمية والريادية المتقدمة، فإن أخفقنا فلن نلوم إلّا أنفسنا أمام التحديات التي ستقف امامنا بالمرصاد.

*********

مصادر البيانات:

- البنك الدولي (2023)، اليونسكو (2023)، تقارير مؤسسة النقد العربي السعودي (2023).

الأكثر قراءة