المستقبل يبدأ من حارتنا القديمة

 

 

ميرفت العريمية

تعتزُّ كلُّ أمة بتراثها الحضاري والعمراني، والذي يعد ترجمة لما وصلت إليه من تقدم علمي وثقافي وحضاري في مجالات الحياة المتنوعة؛ فالتراث العمراني الجانب المادي من الثقافة الإنسانية التي تنقل إلى الأجيال القادمة: من أين بدأ الأجداد وكيف كانوا يعيشون؟

ففي قلب الحضارة الإنسانية، نشأت التجمعات السكانية حول الماء ومصادر الطعام التي توسعت مع مرور الزمن وتحولت إلى مدن وقرى ذات أنشطة متنوعة. حالها كحال كل شيء في الكون تبدأ بالنمو والنهوض ومن ثم تتراجع ويكون أمامها مساران، إما الاندثار أو إعادة تأهيل والتطوير حتى تعيش ألف عاما أخرى. لكنَّ واقع الحال للكثير من القرى العريقة كان التدهور الذي ينبئ بالاندثار السريع واختفاء معالمها التاريخية والحضارية بسبب زحف السكان الأصليين إلى المدن الجديدة التي تمتلك مقومات تتلاءم مع احتياجات المدنية الحديثة، فتركت المدن والقرى القديمة بلا رعاية أو أهتمام حتى تشوهت معالمها وتهدم أجزاء من مبانيها.

شهدت المدن حول العالم تغيرات متلاحقة بدأت بتطور الصناعة، فالتحضر والمدنية والحداثة، ومن ثم ثورة المعرفة التي أدّت لتغيرات كبيرة في أسلوب الحياة اليومية وكذلك في الأنماط المعيشية، وقد أدرك المخططون أن الحفاظ على التراث العمراني القديم ليس بالأمر الهيّن مع تزايد الطلب على الأنماط العمرانية الحديثة. علما بأنَّ التجارب قد أكدت أن الحفاظ على المناطق التاريخية والقرى الأحياء القديمة وإعادة إحيائها قد يساعد في حماية الرصيد الحضاري وتحسين ظروف سكان تلك المناطق وتشجيعهم على ممارسة الحرف التقليدية وبيعها للسياح وتنمية السياحة الخارجية والداخلية.

ذكر تقرير للبنك الدولي أنَّ الاستثمار في التراث الثقافي وإحياء المدن القديمة يمكن أن يحقق نموا وتغيرات جذرية للمجتمعات؛ فهي تساعدها على أن تحافظ على تاريخها والاعتماد على الذات، وتحسين الأحوال المعيشية للفئات الفقيرة؛ كون المدن الفقيرة عادة ما تواجه التراجع بسبب الزحف السكاني إلى مناطق أكثر تطورا.

هنا.. تشهد الأحياء القديمة تراجعا في السنوات الأخيرة، وإن صح التعبير تلاشت الكثير من ملامحها التاريخية والثقافية وتشوهت، فأصبحت أحياء فقيرة تعج بمساكن للوافدين والعمالة قد تتحول إلى بؤر لمشكلات أمنية مستقبلا. حتى إنَّ الزائر لها يعتقد أنه في دولة أخرى، كما هو الحال، في مدينة روي ومطرح ومسقط القديمة وغيرها من القرى في أرجاء البلاد.

فمدينة مسقط القديمة لها تاريخ من الألف الأول الميلادي بسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي المهم في عالم القديم والحديث؛ فكل جزء من مسقط يحمل تاريخا وقصة لم تروَ بعد. مدينة روي كانت يوما ما من المدن التجارية المهمة تتوافر فيها كافة الخدمات والبضائع مكتملة البنى الأساسية، لكنها لم تحظَ بالتخطيط العمراني الذي يحافظ على مكانتها بما يؤهلها لأن تعيش أعواما أخرى دون أن تفقد بريقها، حالها حال الكثير من المدن في العالم التي حافظت على تاريخها وواكبت التطورات الحديثة دون أن تفقد ملامحها ودورها. ومدينة مطرح لا تقلّ أهميتها عن بقية المدن القديمة كونها مركزا تجاريا وميناء مهما وتضمُّ سوقا شعبيا يرتاده الكثيرون كل يوم باحثين عن البضائع المميزة التي لا تتوافر في الأسواق الحديثة، إضافة للأزقة والمنازل القديمة التي ما زالت محافظة على شكلها التراثي.

إنَّ الحفاظ على المدن العريقة ليس لأنها تعكس تاريخا فقط، بل لأنها امتداد لمسيرة النهضة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق، والبنية الأساسية للنهضة، وجزء من الحفاظ على الأصول الثقافية للبلد، وتعزيز للاقتصاد الوطني، وتوفير لفرص العمل، وتحسين للبيئة الحضرية، وتعزيز لجاذبيتها السياحية كوجهة سياحية ثقافية. المدن العريقة تحتاج إلى مشروعات تأهيل ومطورين عقاريين ومستثمرين يعيدون تأهيلها لتصبح مدننا تاريخية بثوب جديد؛ فلا يقع على عاتق الحكومة فقط إعادة تأهيل المدن القديمة، وإن كان دور المؤسسات الحكومية هو الأهم في دعم وطرح مخطط مشروعات إعادة تأهيلها للمستثمرين العقاريين والقطاع الخاص وسكان تلك المدن لضخ استثمارتهم وتذليل كافة الصعوبات التي تحول دون تنفيذ المشروعات التنموية. فقد نجحت الكثير من دول العالم في تأهيل مدنها القديمة من خلال الاستعانة بالقطاع الخاص، ومن أشهر تلك المدن: شنجهاي وأحمد آباد وجوهانسبرج وسنغافورة وأسطنبول...وغيرها الكثير، في حين اختارت بعض المدن أن تحافظ على الطابع التراثي لبعض من أحيائها كمدينة مراكش التي تتميز بمبانينها التقليدية التي باتت عنصرَ جذب للكثير من السياح من مختلف دول العالم.

المدن العريقة والأحياء القديمة مؤهلة لتصبح مبانيها مرافق سياحية ونزلًا وأسواقًا حديثة ذات طابع تقليدي، ومقاهيَ تقدم الوجبات العمانية التقليدية، دون المساس بهويتها القديمة؛ فالأزقة والممرات تحتاج إلى تأهيل وواجهات بعض المباني تحتاج إلى ترميم بما يليق بتاريخها التليد.

فمن الضروري إشراك المجتمع المحلي والقطاع الخاص في مثل هذه المشروعات التي تعبر عن الهوية المحلية للمكان؛ فمثل هذه المشروعات لها أبعاد اقتصادية وتنموية تخدم كافة شرائح المجتمع، خصوصا وأن كافة المدن القديمة في عمان تتوافر فيها بنية أساسية متكاملة؛ وبالتالي فإنِّ تأهيلها لن يكون صعبا كي تصبح مدنًا حديثة ذات تاريخ تعيش ألف عام آخرى. فهناك الكثير من القصص التي لم تروَ تعيش بين أزقة الأحياء القديمة تنتظر من يخرجها إلى العالم.