التنازل عن المبادئ

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

كلمة التنازل؛ بل إن فكرة التنازل عمومًا وقعها غير مُحببٍ على النفس البشرية لإنها توحي بنوع من ترك الحق أو التخلي عنه إراديًا وإن كان بقصد منفعة، أو قسريًا تحت طائلة مؤثر خارجي أقوى من إمكانية الرفض وهو أمر يختلف عن التضحية التي قد تؤدي إلى تقديم تنازل مصيري دون منفعةٍ أو بقصد دفع ضررٍ ودرء مفسدة، وكل تلك الأمور تؤطرها القيم الإنسانية بحسب المكان والزمان والموقف وحتى ثقافة المجتمع وسلوكه العام، وتنعكس أخيرًا على المعايير الأساسية لما نشعر ونؤمن به حتى تصل بنا في المرحلة الأخيرة إلى تطبيقها على التصرفات والأفعال المبنية على قوالب ذهنية تكثر وتقل وتزداد وتنقص من شخص لآخر وتسمى "المبادئ".

قد يَرمُق العنوان من طرفٍ خفي إلى الغرابة ويوحي بنوع من الاستهجان، أو أنه يجدف ضد تيار ما جرت عليه العادة على المستوى العام والشخصي على قدمٍ سواء، حيث من المعروف أن لكل مجتمع وإنسان موازينه الخاصة التي يُميز بها بين الحق والباطل والصواب والخطأ ويرتكز عليها كحجر أساسٍ يقيم عليه بنيانه منطلقًا منه إلى ممارسة دوره في الحياة، والموازين الأصلية لا تتغير، وكما قد يعتقد البعض أن مبادئه راسخة كالجبال أوتادًا ولا تتبدل أو تتزعزع وهي معايير غير قابلة للمساومة أو التفاوض وثابتة كالمساواة والعدل وهما مبدآن أصيلان لا يقبلان شائبة التمييز والمشاركة في الحقوق والواجبات واتخاذ القرار ثم القانون وتطبيقه باستقلالية ونزاهة دون طبقيةٍ أو محاباة، إلا أن المواقف قد تختلف أو تتبدل في بعض الأحيان لرشاقتها لكنها ستدخل في معمل الضمير ليقوم بغربلتها وتكريرها ثم اتخاذ القرار سريعًا بين الرد أو التجاهل.

المبادئ المنطقية لا تتغير، حتى مع توهم لحظي بضرورة التغيير وإن كانت سلوكية أو أخلاقية كالصدق والأمانة والشجاعة والحياء، وهي ثابتة في كل المجتمعات مع قابلية تباين مستوياتها بين ارتفاع وانخفاض من شخصٍ لآخر وشيوعٍ وندرةٍ من ثقافة لأخرى ولعل الحياء هو جوهرة تاج الفطرة الإنسانية السليمة وأكثر ما يميزها وهو الأساس الذي يبعث على الوقار واستحضار المحامد والفضائل ونبذ المقابح والرذائل كما أنه شعبةٌ من الإيمان.

نجد في بعض الأحيان من يتحدث عن المبادئ موهمًا غيره أنه متحلٍ بها بينما ظاهره يشي بالنقيض وذلك لسببين رئيسين: أولهما مقاصد دنيوية بعيدة المدى رسم لها مخطط محكم يحاول حثيثًا تحقيقها وبشكلٍ دؤوب دون كلل وإن تنافت مع المنطق وتناقضت مع الفطرة وعاكست المعتاد فهي تعتمد في إنعاشها على عامل الوقت والتكرار وتطويع كل المعوقات التي تقف في طريقها كالمحاولة الغربية لدعم الرذيلة ونشرها، وثانيهما الوقوع في وهم التحلي بالمبدأ والتمسك به والواقع غير ذلك مثل الثناء الذاتي على النفس تلميحًا وبشكلٍ غير مباشر؛ هذا النوع من الناس قد يُطربه المدح وينشط لديه هرمون السعادة فإنَّ مدحته فأنت أروع النَّاس وتتماشى مع مبادئه، لكن إن انتقدته محاولاً التصحيح أو الإصلاح فقد تقع ضمن دائرة العداء ويجب إقصاؤك لتصبح من المنبوذين.

لا بأس من التنازل عن بعض المبادئ أو مايعتقد أنها كذلك وقد تكون عادات انتحلت صفة المبادئ بعد مرور وقتٍ طويل على ممارستها، حيث يكون التنازل هنا جزئيًا حسب ماتقضي به الضرورة، على أن لا يكون تخليًا كاملًا كالاتفاقيات التي تمهد لتقريب وجهات النظر في شأن ما ثم يتنازل أحد الطرفين عن بندٍ من بنودها بغية الوصول إلى اتفاق يخدم جميع الأطراف مع بقاء المبدأ العام قائمًا، كما يمكن التنازل عن بعض المبادئ والتي لا تعتبر كذلك عند الطرف الآخر بحكم الثقافة السائدة كالحلول ضيفًا على أحدهم أو مضيفًا إذ يتوجب على الطرفين مراعاة الفوارق والمتغيرات بحسب العادات والتقاليد والأعراف ثم التعاطي معها بما لا يشكل عبئًا على طرفٍ من الأطراف أو تقليلًا من شأنه، ولا زال المبدأ هنا هو الضيافة وما يندرج تحتها ما هو إلا سلوكيات وأخلاقيات فيها الناس يتنافسون.

وقد نجد في مرحلةٍ متقدمة أنَّ أحدهم بات وحيدًا أو شبه منعزلٍ نتيجة التمسك الشديد ببعض المبادئ، وربما يكون قاسيًا في نظر غيره لصعوبة التعامل معه بسبب صرامة نظامه اليومي والمعتاد ومع ذلك فإنَّ أمر خصوصيته جدير بالاحترام ولا يجوز لنا التدخل به لتغييره أو تعديله طالما أنه لا يسيئ لغيره، وكما أن المبادئ قد تختلف من شخص لآخر فلا يجب أيضًا إكراه النفس بالتكيف مع أنماط شخص محدد وتقديم تنازلات ربما تؤثر على مستوى الثقة بالنفس من خلال تضحياتٍ مستمرة تؤدي في نهاية المطاف إلى الإحباط.

يُعد اليأس من أخطر الأوضاع النفسية تأثيرًا على المبادئ، وربما يتمرد الإنسان على أهم مبادئه والتي تمسك بها طيلة حياته عند بلوغ هذه المرحلة وربما ينسفها ويعاديها باعتبار أنها وقفت حائلًا دونه ودون تحقيق ما يصبو إليه؛ فقد يسرق الفقير المعدم لسد غائلة جوعه بعد تعففه طويلًا، وآخر يتجه لتجارة المحرمات والممنوعات لعدم تمكنه من الحصول على عملٍ مع أن مبدأه يرفض ذلك التوجه، وأخرى تُرخص شرفها لكسب معيشتها، وأرملةٌ ذات عيالٍ تمد يدها وتسأل الناس إلحافًا وبقدمها تدوس كرامتها.

لن يتنازل عن مبادئه إلا عديمها الساعي لغاياته بكل وسيلة، أو صابرٍ طال به الأمد على وعودٍ لم تتحقق وآمال كالسراب مستحيلة المنال وطموحاتٍ تتبخر تباعًا أو يائسٍ سُدت في وجهه كل الأبواب مع رسالة مكرٍ في هيئة شكر، صيغت بعبارات التقدير في مضمون التخدير وخُتمت بحبر التصبير لتُرسل على بريد الأمل في مغلف صنع من إجفال وسُلم في وجل، والنتيجة ستصيب أكثر المبادئ أصالةً وصلابة بالتنازل.