التفاهة تتحكم!

 

جابر حسين العماني

jaber.alomani14@gmail.com

 

من الظواهر الغريبة التي اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي، بداية في المجتمعات الغربية كمجتمع الولايات المتحدة الأمريكية ومجتمع أوروبا، ثم أخذت شيئًا فشيئًا تنتشر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأعني بالظاهرة الغريبة ما يسمى بـ"الشهرة الاجتماعية" من خلال تقديم محتوى هابط وتافه للمتلقي في تلك المواقع، وأدى انتشار تلك الظاهرة إلى بروز حمقى وسذج كشخصيات مؤثرة على جماهير الأمتين العربية والإسلامية.

يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو- والذي يحمل دكتوراه في الفلسفة بجامعة باريس وفي نفس الوقت هو مدير للبرنامج في الكلية الدولية للفلسفة في باريس- في كتابه "نظام التفاهة" إن "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضًا عن العمل الجاد والملتزم". وهو توصيف دقيق لما نراه اليوم جليًا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

في زيارتي لإحدى العواصم العربية التقيت صدفة بأحد المفكرين الأجلاء من المثقفين العرب، ممن كان ولا زال له الدور الفاعل في توعية المجتمع العربي من خلال البرامج الإعلامية والتوعوية التي يقدمها للناس، وقد كان يمشي في أحد الطرقات العامة بين الناس بكل تواضع، والناس تمشي بجانبه وكأنه إنسان عادي، وبحكم متابعتي لفكره المتفتق بنور العلم والحكمة والدراية، استوقفته للسلام عليه والاستفادة من علمه، وما إن انتهيت من الحديث معه إلا ووقعت عيني على زحمة من الناس في نفس الشارع الذي أسير فيه،  تأملت الزحام وإذا به أحد المشاهير على برامج التواصل الاجتماعي، والناس يتهافتون عليه كما يتهافت النمل على قطع الحلوى، منهم من يطلب التقاط صورة تذكارية، ومنهم من يطلب رقم هاتفه، ومن يدعوه لتناول وجبة العشاء، ومن يبادله كلمات الحب والمدح والثناء.

ولأنَّ المشهد كان جميلا في حد ذاته، ولأني لا أعرف من يكون هذا الآخر، فقد دفعني الفضول إلى التحقق أكثر عن اسمه ومحتواه، لأتمكن من  متابعة حساباته والاستفادة مما يقدمه للناس، ولكن بمجرد متابعتي له تفاجأت منذ الوهلة الأولى أن محتواه هابط، فقد كان أحدهم يطلب منه تلاوة آيات من القرآن الحكيم، وكانت قراءته كلها أخطاء في أخطاء، ومن باب "احمل أخاك على سبعين محملاً من الخير"، قلت في نفسي: قد يكون مجهدا أو مريضا بحيث لم يستطع القراءة على النحو الصحيح، ثم بدأت أبحث عنه في مقاطع أخرى للتأكد مما يقدمه لجمهوره العربي، ولكني صُدمت من المحتوى التافه والهابط الذي يقدمه للناس، فتارة يظهر مع زوجته، وأخرى مع أخته في مقاطع تكشف عدم الحياء أو الاستحياء في تصرفاته، وتكشف أيضًا ابتعاده عن القيم والأخلاق، بهدف كسب أكبر عدد من المشاهدات والإعجابات، والمؤسف في الموضوع أن مئات الآلاف من الناس يتابعونه بشكل يومي، مما جعلني أقف حائرًا في حال أمتنا العربية والإسلامية التي بات أكثر أفرادها يلهثون وراء الدنيا بحثاً عن فضائح الناس، ومتابعة المحتويات غير الهادفة، مما جعل من العلماء والمفكرين أناسا عاديين في المجتمع، بينما صنع من التافهين شخصيات اجتماعية لامعة ومرموقة يقتدى ويحتذى بها في الأسرة والمجتمع العربي، فإلى أين نسير؟!

لقد أصبحت العولمة تدفع بالاقتصاد العالمي إلى الخيبة والانهيار المؤكد؛ بل وتجعل من الإنسان خاويا فارغا من العلم والتعلم، وجعل البشر عاطلين باطلين عن العمل، ينتشر بينهم الفقر والجهل والتجهيل، بينما التافهون أصبحوا يعيشون حياة الأمراء، يرتدون الحرير والذهب والفضة، ويقودون السيارات الفارهة، ويأكلون من أجمل الأطعمة وفي أفضل وأجمل المطاعم والمقاهي والمنتجعات الخلابة، ناشرين الفساد في الأرض من خلال صناعة المحتوى المبني فقط على جذب أو إضحاك الناس ونشر السخرية والاستهزاء بالآخرين.

وهنا لا بُد أن نكون من أهل الإنصاف، فليس من السليم أن نلقي اللوم على التافهين فقط؛ بل اللوم لا بُد وأن يُلقى أيضًا على من صنعهم، وهيئهم، وأبرزهم للمجتمع، وسعى جاهدا لإظهارهم بهذه الكيفية المخزية، بحيث صار يشار إليهم بالبنان لكثرة الإعجابات والمشاهدات التي تصلهم من أقطار العالم وبشكل يومي.

قال الشاعر محمد بن عبد الرحمن:

يا من يُسائل دائبًا عن كل معضلة سخيفة // لا تَكشِفنَّ مُغَطّى فلرُبَّما كَشَّفتَ جِيفة

ولَرُبّ مستورٍ بدا كالطَّبلِ مِن تحت القَطيفة // إنَّ الجواب لَحاضِر لٰكنّني أُخْفيه خِيَفة

اليوم هناك مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق الدولة والمصلحين وأولياء الأمور، فلا بُد من تفعيل القوانين الصارمة التي تمنع انتشار التفاهة والتافهين في المجتمع، وذلك من خلال التشجيع على نشر العلم والتعلم، واحترام القيم والمبادئ الإنسانية والاجتماعية التي تحث على احترام الأخلاق، ورفض الالتزام بالثقافة الغربية المستوردة، فتلك ثقافة معلبة لا تعود على المجتمع العربي إلا بالخيبة والانحطاط الأخلاقي، والابتعاد عن العادات والتقاليد العربية والأصيلة التي لابد من الحفاظ عليها.

يقول الإمام الشافعي:

يخاطبني السفيه بكل قُبْحٍ // فأكره أن أكون له مجيبا

يَزيد سفاهة فأزيد حِلْما // كَعُودٍ زاده الإحراقُ طِيبا

ويقول:

إذا نطق السَّفِيهُ فلا تُجِبْه // فخيرٌ مِن إجابتِه السُّكوتُ

فإن كلَّمته فرَّجت عنه // وإن خلَّيته كمدًا يموتُ