د. حميد بن مسلم السعيدي
قدمت فنلندا نموذجًا حقيقيًا في تطوير التعليم، والنهوض به إلى صدارة التعليم على مستوى العالم، بل تجاوزت العديد من الدول المتقدمة، من خلال منظومة تعليمية فاعلة، تمكنت من خلالها من بناء المهارات الأساسية والقدرات العقلية لدى الطلبة، فأصبحت المدرسة بوابة النهوض بالمجتمع وتقدمه، فساهم ذلك في حدوث تطوير في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما جعل المدرسة منبر التغيير والتطوير على مستوى الأمة القومية.
يقول يورما كوبينن مدير التعليم العام بالمجلس الوطني الفنلنديّ للتعليم: "يدعم المستوى الرفيع الذي يتميز به نظام المدارس الفنلندية إيمانًا قوميًّا راسخًا بأنَّ الشعب هو أهم مورد من موارد الأمة، وله الحق في الحصول على تعليم رفيع المستوى"، هذا التوجه الذي تعتمد عليه المؤسسة التربوية أسهم بشكل كبير في الرغبة في تحقيق الأهداف الوطنية، إيمانًا منهم بأن التعليم هو حجر الزاوية في بناء الديمقراطية والمجتمع الحديث. لم تذهب فنلندا إلى الخبرات الأجنبية ولم تستعن بالمناهج المستوردة، ولم تذهب لبيوت الخبرة في بناء مناهجها، ومنظومتها التعليمية، وإنما ذهبت إلى المواطن الفنلندي وبثت فيه الرغبة في التعليم؛ فظهرت المناداة بضرورة تطوير التعليم من خلال تبني مبدأ "المساواة بين الطلبة في التعليم" بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي أو الاقتصادي الكل في مدرسة واحدة، ويقدم ذات المستوى من التعليم الجيد، مما زاد من اهتمام جميع شرائح المجتمع وطبقاته بالتعليم فخلقت الإرادة الوطنية والرغبة الشعبية في تحقيق أهداف التعليم.
يُنفق على التعليم ما بين 11% إلى 12% من الميزانية العامة لدولة فنلندا، ويحتل المرتبة الأولى في الاهتمام الحكومي، من خلال العمل على توفيره مجانًا حتى انتهاء الدراسات العليا للطلبة، لأنهم يعتقدون أن التعليم هو العنصر الأساسي في بناء المواطن، والمساهم بشكل كبير في النهضة التنويرية لدى الأمة الفنلندية؛ إذ يتجاوز عدد سكان فنلندا أكثر من 5 ملايين نسمة، ويبلغ عدد الطلبة 550,000 طالب يلتحقون بـ3000 مدرسة حكومية، ولا يتجاوز عدد الطلبة في كل مدرسة أكثر من 200 طالب، ويحصل الطلبة على بيئة تعليمية آمنة وفاعلة، ولا تتجاوز الكثافة الطلابية 20 طالبًا في كل قاعة صفية، تتوافر فيها كل المستلزمات التي يحتاجها الطالب، وفقاً للاحتياجات التعليمية وأنماط التعلم لديه؛ إذ توفر لهم كل المصادر التعليمية المتعددة والوسائل المساندة لعملية التعليم.
أما المعلمون فيحصلون على الاهتمام والرعاية والتكريم والتدريب الذي يؤهلهم لامتلاكهم المهارات التربوية والمعرفية العميقة بالمناهج الدراسية، ويمتلكون الحرية في عملية التعليم وتطبيق ما يرونه مناسبًا من طرق وأساليب تدريسية، ولا يعمد المعلم على تقييم الطلبة وفق الدرجات إلا بعد الصف الخامس الدراسي، كما إن منظومة التقويم من أجل التعلم هي القائم في المدارس ولا توجد اختبارات نهائية للطلبة. تقول إركين جونتي وهي مديرة لإحدى مدارس فنلندا: "يعتمد التدريس على الدعم والمشاركة والتفاعل. كما يعمل الطلاب باجتهاد، دون أن يجبَروا على ذلك من خلال الطلب أو التخويف أو الضغط، تضم مدرستها حوالي 350 طالبًا في المرحلة الثانوية، أي من السنة السابعة وحتى السنة التاسعة من التعليم. كما تتراوح أعمار الطلاب بين 13 و16 عامًا.
هذه البيئة التعليمية الآمنة التي يحظى بها الطلبة بكل تأكيد تساعدهم على التعلم، من حيث قلة عدد الطلبة في القاعة الصفية التي تساعد المعلم على توظيف طرق التدريس الحديثة القائمة على التعلم البنائي، كما تساعده على تقديم التغذية الراجعة المناسبة لكل طالب، فلا يوجد تعليم في قاعة مليئة بعدد كبير من الطلبة في ظروف مناخية صعبة، فهذا أشبه الفوضى التعليمية والتي رفضته فنلندا وعملت على توفير البيئة التعليمية الإيجابية. وفي ذلك تقول المديرة إركينجونتي: انطلاقًا من إيمانها بأن نجاح المدارس الفنلندية يرجع بنسبة كبيرة إلى القيم والصورة الإنسانية لمجتمع المدرسة. يستطيع الصغار اكتساب المعرفة والمهارات عندما يشعرون أنهم مقبولون ويحظون باحترام الجميع وثقتهم. أما العنف والتخويف وغيرها من الأمور التي تضر بمصلحة الطالب، فيتم مُعالجتها دون توانٍ.
لا يقتصر الاهتمام بالطلبة على عملية التعليم واكسابهم المهارات الأساسية في التعليم، إنما يتم حمايتهم من التعرض للإساءة أو الاستغلال بكافة أشكاله، فالمدرسة مسؤولة عن سلامة الطلبة البدنية والعقلية والاجتماعية، وتمتلك كافة الإجراءات القانونية التي تساعدها على حماية الطلبة وتوفر لهم التعليم الفاعل، ويحصل الطلبة على وسائل النقل الآمنة التي توصلهم إلى المدرسة في أقل من نصف ساعة في وسيلة نقل تضمن سلامة الطلبة، وتتوفر في المدرسة الوجبات المجانية لجميع الطلبة، وتكون وفق معايير السلامة الصحية التي لا يتم التهاون في إجراءاتها، إذ إن صحة الطلبة تأتي من ضمن أولويات اهتمام القيادة التعليمية.
التعليم في فنلندا ليس معجزة وإنما هو ثمار عمل وطني هادف، استغرق وقتًا وجهدًا من البحث والتقصي والتفكير والابتكار والاعتماد على المفكرين الوطنيين، والباحثين، والكفاءات الوطنية، فكان ثماره تطور في التعليم، جنت الأمة الفنلندية ثماره بعد فترة زمنية قصيرة؛ إذ أدرك الجميع أن النهوض بفنلندا من دولة زراعية إلى دولة اقتصادية لا بُد أن يحدث من خلال بوابة المدرسة، وهذا ما حدث بعد فترة زمنية قصيرة فأصبحت فنلندا دولة متقدمة تمتلك اقتصاد المعرفة المتطور؛ إذ ركز التعليم على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلمين دون استثناء فالجميع يتعلم في ذات المدارس وذات الفترة الزمنية وذات الظروف والمعلمين، فلا يوجد تعليم مسائي ولا تعليم بدون مُعلمين، ولا تعليم بدون كتب دراسية، الكل يكون جاهزاً مع بداية العالم الدراسي لاستقبال الطلبة، وتوفر لهم كل المستلزمات التعليمية مع بداية العام الدراسي، ولا يوجد تأخير في توافر المعلمين أو الكتب الدراسية، أو انقطاع في الفترة الزمنية المخصصة للتعليم، كل ذلك يتم إدارته والتخطيط له بفاعلية من القيادة التعليمية التي ترى أن التعليم هو مصدر الثورة الوطنية، وأن الطلبة هم بناة المستقبل الوطني لهم. فلا توجد معجزة حدثت في فنلندا وإنما عمل وطني الكل اجتهد من أجل التعليم فلا يوجد متخاذل أو فاشل في التخطيط ولا بقاء لاي موظف غير قادر على القيام بواجباته أو قائد يتخبط في قراراته.
ويشير الكاتب نور الدين قلالة إلى أن هناك 7 جوانب ساهمت في نجاح التعليم في فنلندا وهي: "احترام التعليم جزء من الهوية الوطنية، اختيار المعلمين يتم بعناية شديدة، ساعات عمل أقل وراحة أكثر للمعلمين لا تتجاوز (20) ساعة أسبوعيًا، نصف هذه الساعات يقوم فيها المعلم بإعداد المناهج الدراسية وتقييم الطلبة. كما لا يوجد فصل بين الطلبة على أساس مستواهم التعليمي، كما أن العلاقة بين المعلمين والطلبة علاقة ارتباط أبوية، ويحمل التعليم شعار المساواة بين الطلبة سواء كانوا في مناطق ريفية أو حضرية، فقيرة كانت أو غنية يحصلون على جودة تعليم متساوية".
هذا الأمر يقودنا لقراءة واقع التعليم في البلدان العربية؛ إذ يشير نور الدين قلالة إلى أن الدول العربية تجبر الطالب على حفظ الكتب المدرسية، ويقطعون عليه أي فرصة خارج المناهج النظامية، ليس هناك أهم من الدرجات، والامتحانات هي التي تحدد مصير الطالب ومصير أهله أيضًا، فيكتسب الطالب مهارات في الغش والتعامل مع الامتحانات لأنه يهتم بها أكثر من اهتمامه بمحتوى المواد والعلوم.
فهل حققت الدول العربية تقدمًا في التعليم يُمكِّنها من تجاوز الدول المتقدمة؟