د. عبدالله باحجاج
القول أكثر من الفعل في قضية لا تحتمل الانتظار طويلًا، وهي قضية الباحثين عن عمل، ومشكلتنا في القول متعاظمة في ظل غياب العمل المُمنهج والمُنتِج لفرص عمل متواصلة، وتداعيات هذا الأمر ستظهر فوق السطح في الآفاق المنظورة، وقد بدأت قضية الباحثين تخاطب الآن السلطات العليا بعد أن فقدت الأمل في السلطات التنفيذية التي كُلِّفت بإيجاد حلول دائمة وآمنة لها.
ما نستشرفه هنا نتيجةٌ طبيعية وتلقائية لمنحى تصاعد عدد الباحثين المعلن رسميًا، والمقدر بأكثر من 100 ألف باحث، يُضاف إليهم قريبًا الآلاف من مخرجات المؤسسات التعليمية الجامعية للعام 2023، وهذا التراكم العددي وما يُصاحبه من تصريحات رسمية متشائمة بين الفينة والأخرى يُغذّي من حديّة الإحباط والاستياء لدى الباحثين عن عمل ومعهم أسرهم.
أين المشكلة؟ هل في ندرة فرص العمل أم في المنهجيات أم التطبيق أم جميع ما سبق؟
قمنا بحصر المشاريع العملاقة التي أقامتها الدولة والتي أصبحت تدر إيرادات ضخمة، وتلكم التي تؤسِّس لمرحلتنا المستقبلية، فخرجنا من حيث المبدأ بانتفاء النُدرة؛ لأنها يُفترض أن تُنتج فرص عمل كمية ونوعية، مثل ميناء صلالة الذي حقق المركز الثاني عالميًا للعام الثاني على التوالي، والمركز الأول على مستوى منطقة غرب ووسط وجنوب آسيا، وقيل لنا في يوم افتتاحه عام 1998، أنه سيحوِّل صلالة إلى هونج كونج، فما نسب التعمين فيه؟ وما مستوياتها؟ وكم ينبغي أن يستوعب من العمانيين الجُدد؟ وكم فرصة عمل تستوجب الإحلال بعد التدريب؟
الحال نفسه بالنسبة للمشاريع العملاقة في الدقم القديمة منها والجديدة، الحكومية والخاصة، الاقتصادية والصناعية؛ كالمصافي والصناعات البتروكيماوية والأنشطة التجارية والسياحية واللوجستية والصناعات الخفيفة والمتوسطة والصناعات السمكية ومشاريع التطوير العقاري، وفي المدن الصناعية والاقتصادية التي تستثمر فيها دول مثل الهند والصين والسعودية.. والتساؤلات نفسها تُطرح هنا؟ ويُمكن للرؤية المسحية للمشاريع أن تمتد على طول مساحة البلاد التي أصبحت تخدم الاقتصاديات العالمية، فكيف لا يتم التفكير في توظيفها الأمثل لإنتاج فرص عمل لشبابنا؟
وكذلك الحال بالنسبة لتوجهات الدولة المعاصرة لمواكبة التحديات الإقليمية والعالمية، مثل الاستثمار في الفضاء، والتقنية النووية، والطاقة المتجددة، والطائرات المُسيَّرة.. إلخ، وقد أنشات الدولة لها مؤسسات، وتتعاقد الحكومة مع شركات عالمية معروفة، فلماذا لا يكون تأهيل وتأطير جيل من شبابنا لهذه التحولات منصوص عليه في العقود مع الشركات العالمية؟
ذكرنا في مقال سابق أن دولة خليجية تُصِر في عقودها على أن يكون أكثر من نصف الكوادر والأطر التقنية والفنية في تلك القطاعات من مواطنيها، وقد كان لها ما أرادت فعلًا، ففي مجال الفضاء نصف الفنيين والتقنيين البالغ عددهم أكثر من 1000 من أبنائها وأقمارها الصناعية تغزو الفضاء الآن!
هكذا ينبغي إعادة بناء الأوطان من منظور الاستدامة المعاصرة وفق الحفاظ على الدولة الوطنية، وهى خيارنا الاستراتيجي، ولن يكون هناك بديل غيرها؛ فالوطنية محكومة بالجغرافيا العمانية وبمحتواها الديموغرافي، ولا ينبغي أن تغيب هذه الحقيقة عن مسيرة الإصلاحات المعاصرة في بلادنا؛ بل ينبغي أن تُكرَّس وتُعزَّز في مختلف مناحيها، وهنا نجد بلادنا مختلفة جوهرًا وشكلًا عن الدول التي تقع في محيطها، فمن الاستحالة أن تكون الوطنية مصدرًا من مصادر قوتها، أو حتى ضعفها، لذلك فالمجالات أمامها مفتوحة.
وحتى لمّا اهتدى التفكير الحكومي إلى قضية الحصول على فرص عمل جديدة من المشاريع العملاقة القائمة، غرق التنفيذ الحكومي في البطء والتأخير، ربما علينا هُنا أن نستدل بتوقيع مكتب محافظة ظفار في التاسع من مارس الماضي مذكرة تفاهم مشتركة مع البرنامج الوطني للتشغيل لإيجاد فرص عمل للباحثين من أبناء المحافظة عن طريق التأهيل والتدريب، وحتى الآن لم نرَ أي نتائج على الأرض، وقد طلبنا توضيحات وتفاصيل من الجهة المختصة ولم توافِنا بها منذ أكثر من شهرين.
وفي مقال سابق أشدنا بالمذكرة واعتبرناها منهجية عمل وطنية لكل محافظة عمانية، يشترك في مسؤولية تنفيذها المحافظون والبرنامج الوطني للتشغيل، وقدمنا ظفار نموذجًا تطبيقيًا على خلفية توقيع المذكرة، وفيها تحددت مجالات التدريب والتأهيل في المجالات التكنولوجية وتقنية المعلومات، والأمن الغذائي والاقتصادية والسياحية والثروة السمكية.. إلخ. وقد أوضح مصدر أنه سيتم اختيار المستهدفين من قائمة الباحثين عن العمل من أبناء المحافظة، وفق معيار التخصص المُستهدف بناءً على الاتفاقية، وكشف المصدر لنا كذلك عن عدد كبير بالمرحلة الأولى للتدريب والإحلال- لكنه تراجع عنه بعد أن نشرناه- وأوضح أنَّه سيبدأ العمل بالاتفاقية اعتبارًا من أبريل الماضي.
اليوم نحن في نهاية مايو، ولم نسمع عن التطبيق، ولم نتلق على استفساراتنا أية إيضاحات من المصدر أو غيره، وهنا البُطء والتأخير الذي تحدثنا عنه في بداية المقال، وهو لا يستقيم مع ديناميكية قضية الباحثين عن عمل، وسرعة المُطالبة بالنتائج. والخطوة بين مكتب محافظ ظفار والبرنامج الوطني للتشغيل من جهة، وإبرام اتفاقيات بين البرنامج الوطني للتشغيل والشركات في ظفار من أجل التدريب ومن ثم الإحلال رائعة، وعمليّة، وغير تقليدية؛ إذ تعد قضية الباحثين عن عمل مسؤولية اللامركزية كذلك، والحل المثالي لها يكون من خلال استنفاذ فرص العمل في كل محافظة، لكنها لم يبق منها سوى الزخم الإعلامي لحفل التوقيع.
ويتزامن فتحنا لهذه القضية مع تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا"، وهي واحدة من خمس لجان إقليمية تخضع لولاية المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم للمتحدة، والدول الست الخليجية أعضاء فيها ضمن عشرين دولة عربية. تقرير "الإسكوا" حدد عدد الفقراء في الخليج بنحو 3.3 مليون شخص من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، وكان التقرير شفافًا في تحديد عدد الفقراء في كل دولة، وذلك عندما أوضح أن "الفقر طال واحدًا من كل 7 مواطنين في السعودية، وواحدًا من كل 10 في عُمان، وواحدًا من كل 13 مواطنًا في البحرين".
كلنا يعلم أنَّ قضية الباحثين عن عمل هي أحد أسباب الفقر، والآن تطال جيل الشباب، وهنا الخطورة العالية، خاصة وأنها تتقاطع مع مرحلة انفتاح الدول الخليجية على الاستثمارات المتعددة الجنسيات ومعها ديموغرافيتها وآيديولوجيتها. ربما علينا في أقرب مقال لنا أن ندرس تجربة دول المغرب العربي في الاختراق الأجنبي لشأنها الداخلي، وكيف حولته إلى جيوش مدنية موالية لها؟
نتمنى أن يتحرك- سياسيًا- ملف الفقر عامةً، والباحثين عن عمل خاصة عاجلًا، وتجنب السياسات والتحولات التي تصنع الفقر الجديد، وفي بلادنا قد تحدثنا عنه في الكثير من المقالات، من بينها مقال "مسارات تُنتج الفقر"، ونشدد الآن على صناعة الجدية في التوظيف عبر وسائله المتعددة بما فيها ما سبق ذكره.