التربية السياسية بين الواجب والمحذور

د. سلطان بن خميس الخروصي **

sultankamis@gmail.com

تشكل التربية السياسية أحد الأضلع الأساسية في منظومة الأمان الاجتماعي والاستقرار السياسي لدى كثير من دول العالم الحديث؛ إذ فرضت التغيرات والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المتسارعة أنماط حياة عصرية تستوجب أن يواكبها التعليم بحسن تقبل أو بالإكراه؛ فالهروب من الواقع هو انهزام له عواقبه غير المرغوبة، كما إن مجريات الأحداث المضطربة بين مفاهيم الجهاد والإرهاب، وبين التخوين والمواطنة، وبين المقاوم والمحتل تدفعنا إلى ضرورة وضع إطار عام لاستيعاب فلسفة التربية السياسية.

وقد أولت الأنظمة السياسية ومراكز التخطيط ورسم السياسات الاستراتيجية الوطنية اهتمامها المكثف نحو غرس هذه الركائز بأدواتها الناعمة أو التسلطية لخلق جيل وفق هوية ترسمها السلطة السياسية والأمنية.

ولو ضيَّقنا الدائرة قليلاً لاستيعاب ماهية التربية السياسية ومرجعيتها الفلسفية نجد أن تأطيرها الفعلي بدأ في العام (1959م) في كتاب "التنشئة السياسية" للعالم الأمريكي هربرت هيمان، والذي عرّفها بأنها جملة من الاتجاهات والقيم السياسية التي ينبغي أن تكون مغروسة في كل مواطن ليتمكَّن من ممارسة دوره الاجتماعي، ويعرفها جرينستين وهو المتخصص في دائرة المعارف الدولية للعلوم الاجتماعية بالتلقين المباشر وغير المباشر من أجل خلق قيم ووعي ذات خصائص محددة يسعى النظام لتعميقهما وتعزيزهما؛ إذ يعتقد أنهم في المستقبل سيكونون أدوات تنفيذية لسياسة النظام الحاكم.

وعلى الرغم من حداثة تأطير التربية السياسية إلا أن خلفياتها التاريخية تعود للحضارات القديمة؛ فالفيلسوف اليوناني أفلاطون كان من أوائل من نادوا بأن من يتولى الحكم يستوجب عليه غرس قيم الثقة والحقوق والواجبات في نفوس الناس، ويُبعدهم عن الرهبة والاستحقار والتهميش. ووافقه في ذلك الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي شدد على ضرورة تضلّع من سيحكم الناس بالعدالة والمساواة والابتعاد عن الاستعباد. ويذهب أرسطو لأبعد من ذلك في كتابه "السياسة"، قائلًا إن التربية السياسية تنطلق من دور النظام السياسي في تعليم المواطنين الواجبات والحقوق التي يرسمها النظام، فإن أهمل ذلك ضرَّ بسياسته وحُكمه، ولا بُد من تلقين النشء الأخلاق المدنية الشعبية التي تخلق نظامًا شعبيًا مُرضيًا، وأما الأخلاق الأوليجاركية (الفئوية) فلا تُوجِد إلا الاحتقان وحكم الأقلية التسلطية. وبعيدًا عن الفلسفة النظرية والأدبية لماهية التربية السياسية، نستطيع أن نعرِّفها بأنها المعايير والقيم والخصائص الشخصية التي يسعى النظام لتمكينها معرفيًا ووجدانيًا لتنعكس في ممارسات وسلوك مواطنيه عبر أدوات ووسائل متباينة؛ فيتقبلوها كنظام حياة دائم، على أن تكون ديمقراطية تحفظ طرفي المعادلة المتعارف عليها في جميع دساتير العالم القائمة على الحقوق والواجبات.

وتكتسب التربية السياسية أهميتها من خلال الفلسفة التشاركية بين النظام والمجتمع التي تلقى بظلالها على المنظومة التعليمية؛ فالمدرسة ووسائل التعلم والتعليم المختلفة تشكل الحاضن الأكبر لملء عقول النشء بقوالب محددة يريدها النظام السياسي في أي بلد. وهنا تكمن الطموحات والمحاذير في رسم خارطة التعليم وفق مرجعية الحكم القائم، فبعض الأنظمة تعمل جاهدة لتعميق استمراريتها وغرس ثوابت الولاء والانتماء بمقاييس ومواصفات محددة جدا مع حفظ الإطار العام للأمن الاجتماعي، والبعض الآخر يتطرَّف في ذلك ويقع في خانة الغلو بالتدخل السافر في رسالة التعليم وقدسيته وقيمته الإنسانية والاجتماعية لمبادئ يمثل الخروج عنها محرَّما؛ وهنا تكمن الخطورة والهاجس من ردة الفعل أو الوصول إلى مرحلة الانفجار المجهولة آثارها؛ وليست الحرب العالمية الأولى ببعيدة عنَّا حينما كان الحزب النازي يغرس حب الولاء والانتماء لألمانيا بكل مفاصل التعليم لكنه كان يزدري الشعوب الأخرى وخصوصياتها وثقافتها وحضاراتها ليسدل الستار على خسائر مؤلمة لألمانيا وأطراف الحرب ولا تزال آثار تلك التجربة واجمة على قلب أوروبا.

تتباين أدوات التربية السياسية ابتداء من الأسرة، ومجتمع الرفاق، والمدرسة، والإعلام وغيرها، إلا أننا سنسلط الضوء على المنظومة التربوية التي يقضي فيها المتعلم جُلَّ وقته ويكتسب من مكوناتها المعارف والشعور ليعكسها في ممارسته وسلوكه، فيلعب المناخ المدرسي دورا بارزا في بناء طفل واثق من نفسه، ومتفائل ومنجذب للإبداع والتميّز واكتساب المفردات السياسية ودلالاتها من خلال ما يحظى به من رعاية بعناية، والعكس صحيح فقد يكون النظام السائد مدعاة للإحباط والخمول وهزّ ثقته في نظام بلاده السياسي ومؤسساته وخاصة حينما يرى المتعلم واقع مدرسته يناقض ما يتعلمه؛ فيشكل النظام المدرسي السائد إداريًا وتدريسيًا حجر النرد الأساسي في هذه المنظومة لدى النشء؛ ويؤكد التربويون أن فلسفة مدير المدرسة والمعلم وسلوكياتهم تؤثر بصورة مباشرة على المتعلم؛ فالنظام التسلطي الاستبدادي في البيئة المدرسية يخلق جيلًا ضعيفًا خانعًا مهزوزًا يتقبل أي شيء يُملى عليه؛  فينعكس ذلك في مرحلة لاحقة على قبوله لكل ما يريده النظام السياسي، فيكون جيلًا رجعيًا متخلفًا، كما أن النظام الحر المطلق يخلق جيلًا لا يعير أي اهتمام للقوانين والأنظمة والحقوق والواجبات؛ وبالتالي يخلق مجتمعًا قابلًا للانفجار في أي لحظة وإن كلَّف ذلك التعدي على منجزات الوطن وبنيته التحتية، كما شاهدنا نماذج كثيرة فيما عرف بدول "الربيع العربي"، ويشكل النظام الديمقراطي التشاركي أرقى النماذج التي يمكن أن تغرس في سجايا المتعلم الشعور بالأهمية الشخصية، ومسؤوليته تجاه وطنه وعالمه المحيط، واستيعاب ماهية الدستور والحقوق والواجبات وبناء دولة المؤسسات والمساهمة في التنمية المستدامة.

وتشترك المناهج الدراسية في مسؤوليتها الأساسية في التربية السياسية، فلا يمكن إغفال العمق المعرفي والوجداني وانعكاساتهما على سلوكيات الطلبة للمفردات المُنتقاة في المحتوى الدراسي والأنشطة المصاحبة له؛ ولذلك نجد في الفقه السياسي ما يُعرف بـ"ساسة المنهج المدرسي" والذين هم مهندسو الفكر السياسي في كثير من دول العالم؛ فالقيم والمبادئ والأهداف المرسومة تظل عالقة في عقول وقلوب النشء لأجيال متلاحقة؛ فعلى سبيل المثال تشير العديد من الدراسات التي بحثت في أسباب العنف العنصري تجاه السود في جنوب إفريقيا إلى أن ذلك يعود إلى التطرف غير المبرر في المناهج الدراسية التي كانت تغالي في نشر فظائع السود وجرائمهم ضد البيض، وتُعمِّق قيم تمايز البيض عن السود.

كما أن طريقة تدريس محتوى هذه المناهج تلعب دورا كبيرا في خلق نموذج الشخصية المستهدفة، فالتلقين والسرد لا يخلق إلا نُسخا ذات قوالب جامدة تفتقد الاستقلالية والإبداع ومُحاكاة الواقع وربط أحداثه بمسؤولية وتبصر؛ فلا بُد لنا أن نبني قواعد التعليم بكل شفافية وجُرأة ومسؤولية لتكون لنا مُخرجات تستوعب ما حولها، وتربط المواقف بعمق واتزان، وتطالب بالإصلاحات المجتمعية والمعيشية برُقيٍّ رفيع.

** باحث وكاتب في شؤون التربية والمجتمع والأسرة