السعودية.. رؤية من الداخل (1)

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

بدأت المملكة العربية السعودية بإجراء إصلاحات شاملة منذ إطلاق "رؤية 2030" استعدادًا لمرحلة ما بعد النفط، والتغييرات الجذرية السريعة التي تجري، وتغير شكل السعودية، وتعيين أول امرأة كوكيل لإحدى الوزراء، وفتح باب التجنيد الاختياري أمام المرأة للالتحاق بالحياة العسكرية.. كل تلك كانت خطوات جريئة في بلدٍ لم يكن يسمح للمرأة بقيادة السيارات.

كما تقلصت الرواتب والمزايا السخية التي كانت تتمتع بها الوظائف الحكومية. وتعكف الحكومة في الوقت الحاضر على إنجاز المشاريع الكبيرة الإستراتيجية، ولكنها تتجه لتحديث القطاع الخاص لكي يكون المحرك الرئيسي للنمو.

التغييرات شملت كذلك النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والعمرانية، والنظر إلى المرأة بصفتها نصف المجتمع والشريكة في التنمية، إضافة إلى محاربة الفساد. لقد أيقنت الحكومة السعودية من تجارب الدول التي نجحت في تحقيق رؤاها المستقبلية أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم إلى الأمام إذا كان مقيدًا بسلاسل قوية من الماضي. وكل تجارب الدول التي نجحت في نهضتها الشاملة تفيد بأن المجتمعات لا يمكن أن تتقدم ما لم تغير عوالمها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية.

من يزُر الرياض ويقارنها بزياراته السابقة، يلمس حجم التغييرات وبداية اختفاء حالات التزمت الاجتماعي والثقافي والفكري السابقة. فقد زرتُ المملكة الشقيقة عدة مرات، الزيارة قبل الأخيرة كانت في نهاية عام 2019 ولاحظت التغييرات الاجتماعية والثقافية والعمرانية الكبيرة الحاصلة، مقارنةً بما شاهدته في عام 2016، ووجدت أيضًا مزيدًا من تلك التغييرات في زيارتي الأخيرة للرياض قبل فترة قصيرة، مقارنةً مع ما لمسته خلال زيارتي في عام 2019، ويشعر الزائر بهذه التغييرات منذ وصوله إلى أرض المطار.

الأنشطة الغنائية والفنية والثقافية المختلفة عادت للرياض، والإقبال عليها كبير، كما تم استحداث هيئات جديدة مثل هيئة الترفيه، والتي تهتم بشؤون الترفيه لفئة الشابات والشباب السعودي التي تشكل الشريحة العظمى من السكان، ومهمتها العناية بنشاط الترفيه، وهي إحدى الهيئات التي تأسست تماشيًا مع "رؤية 2030"، ومن ضمن مهامها الكثيرة تنظيم عروض الكوميديا التي ينظمها الشباب السعودي لمُعالجة قضايا مجتمعه بطريقة كوميدية، ومسرح المواهب والفنون البصرية، وهو مجال كان غير معروف لكنه رأى النور اليوم. والأنشطة تشمل معظم المدن الصغيرة في المملكة ولا تقتصر على المدن الكبيرة فقط.

التحولات الكبيرة الحاصلة هي بمثابة "ثورة" إيجابية حقيقية بكل معنى الكلمة ولكنها ثورة هادئة. كان من المستحيل تصور حدوث تلك التغييرات قبل ست سنوات فقط.

عدد كبير من المراقبين الذين كانوا يتابعون التطورات في السعودية في تلك الفترة، كانوا يشعرون أن الدماء لا تسير بالأوعية الطبيعية؛ بل تسير في أوعية من الحديد، وأن المجتمع أصبح متصلبًا بشكل كبير. وأي مجتمع في مسعاه للتجديد والتقدم والإبداع لا ينمو طبيعيًا إذا كانت الدماء تسير في أوعية من الحديد. وكل ذلك أثر كثيرًا على إبداعات الشباب والشابات وحبس طاقاتهم عن الانطلاق.

كانت السعودية تواجه تحديات كبيرة: إما البقاء في ظل الأوضاع الجامدة والسير عكس التغييرات الحاصلة في العالم، أو القيام بتغييرات "ثورية" لكنها مدروسة بعناية. وجاء الملك الإصلاحي سلمان بن عبدالعزيز ونجله الأمير الشاب محمد بن سلمان واتخذا سلسلة من الخطوات الجريئة والسريعة لإحداث نقلة قوية وسريعة وفعَّالة في جميع جوانب الحياة؛ فالتطور الإنساني وما يجري في العالم من تغييرات هائلة وتأثيرات الثورة العلمية والتكنولوجية الكاسحة يفرض حتمية التغيير بشكل سريع ومدروس. كما أدركا- الملك وولي العهد- أن التغييرات السطحية وأنصاف الحلول سوف تعيق حدوث أي تقدم، وأن السعودية بحاجة إلى حلول جذرية تضعها في مصاف الدول المتقدمة المؤثرة، كما أيقنا- مثلما أيقنت دول عديدة في العالم أجمع- بأن آفة الفساد تُعد من المعوَّقات الضخمة لكافة محاولات التقدم، والعائق الرئيسي لكافة خطط التنمية؛ مما يجعل آثار الفساد شديد الفتك، وأن دوره المخرب لا يقتصر على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر؛ بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فعلى الصعيد الاقتصادي يؤدي الفساد الى إعاقة النمو الاقتصادي الحقيقي ويقوِّض كل مستهدفات الخطط التنمية، ويتسبب في إهدار موارد الدولة، أو على أقل تقدير سوء استغلالها، بما يعدم الفائدة المرجوة من الاستثمار الأمثل، كما يؤدي الفساد إلى عدم القدرة على جذب الاستثمارات؛ بل يُفضي إلى هروبها، سواء كانت وطنية أو أجنبية، ويخل الفساد بعدالة توزيع الدخول والموارد وإضعاف الفعالية الاقتصادية، وازدياد الهوة بين الفئات الغنية والفقيرة، وإضعاف الإيرادات، والالتفاف حول القوانين النافذة، وسوء  الإنفاق العام لموارد الدولة، وتدني كفاءة الاستثمارات العامة، وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة بسبب الرشاوى التي تُدفع للتغاضي عن المواصفات القياسية المطلوبة.

وعلى الصعيد السياسي، يؤدي الفساد إلى تشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة، وتحقيق مستهدفات خطط التنمية، وضياع هيبة دولة القانون والمؤسسات، لا سيما إذا امتد الفساد إلى القضاء والجهات الأمنية وحتى إلى بعض رجال الدين، كما يزعزع  الاستقرار السياسي ويقوض كافة الجهود الرقابية على أعمال الحكومة والقطاع الخاص.

وعلى الصعيد الاجتماعي، يؤدي الفساد إلى تمزق النسيج الاجتماعي، وإشاعة روح الكراهية بين طبقات وفئات المجتمع نتيجة عدم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة، وتحقيق مستهدفات خطط التنمية.

وبدأت السعودية شن حملة شاملة على الفساد، وتمكنت من السيطرة على الفئات المتشددة والمتزمتة التي كانت تبث مفاهيم التأخر والتشدد.

تلك الفئات المتزمتة أرهبت أجيالًا من السعوديين، لا سيما النساء، فقد كانت أنشطتها تؤدي إلى مضايقة الناس والتدخل في أمورهم الشخصية، والقيام بدوريات في الشوارع والأسواق والأماكن العامة للتأكد من الفصل التام بين الجنسين، ومراقبة الإغلاق الإجباري للأسواق في أوقات معينة. وكان يحق لهذه الجهات القيام بإجراءات الضبط والتفتيش والإيقاف قبل إصلاحات 2016، وأعضاء هذه الجهات كانوا يمتلكون صلاحية إيقاف أو اعتقال أي شخص في نظرهم يقوم بأعمال مخالفة للشريعة، مثل القبض على أي رجل وامرأة يتبادلان الحديث  بزعم عدم وجود علاقة شرعية بينهما!

وُجهت لتلك الجهات وأعضائها الكثير من التهم بالتدخل في الحريات الشخصية والإساءة إلى حقوق الإنسان. وبعض تصرفاتها أثارت جدلًا اجتماعيًا بعضه ما يزال في ذاكرة المجتمع السعودي حتى الآن. فبعد انتشار مقاطع فيديو لحادثة الحريق المروع الذي حدث في مدرسة داخلية للبنات في مدينة مكة المكرمة في عام 2002، وهو حريق أتى على مدرسة بها 835 طالبة و55 امرأة، أدى الحادث إلى وفاة عدد كبير من الطالبات وإصابة عدد آخر في المدرسة. وُجِّهت إلى تلك الجهات  الكثير من الانتقادات بالتسبب في الوفيات، وذلك عندما قامت بطرد أولياء الأمور أثناء اشتعال الحريق بالمدرسة، وإغلاقهم الأبواب على الطالبات أثناء ذلك لأنهن «لا يرتدين الحجاب»!! كما اتهم أفراد تلك الجهات بمنع رجال الإطفاء والإسعاف من الدخول إلى المدرسة لأنه «لا يجوز للفتيات أن ينكشفن أمام غرباء». كانت النتيجة خروج بعض الطالبات جثثًا متفحمة؛ مما زاد الانتقاد الحاد ضدها محليًا ودوليًا.

بالتأكيد أن الفئات التي تضررت مصالحها أو التي لا تريد أية إصلاحات سوف تستغل أي خطأ لمحاولة تأخيره تمهيدا لوقفه ومن ثم وأدِه، ولذلك فإن التغييرات تجري بشكل مُحكَمٍ..

وللحديث بقية في الجزء الثاني من المقال.