المدن الذكية

تكنولوجيا صناعة المستقبل ترسم ملامح جديدة للحضارة البشرية

...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...

الرؤية - سارة العبرية

لطالما مثَّلت فِكرة المدن الذكية أو مُدن المستقبل، مجالا واسعًا أمام الخيال وقصص الأفلام منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ والتي تبارى كلٌّ منها لتخيُّل شكل حياة الإنسان بعد سنوات من التطوُّر وتمكين التكنولوجيا.. حياة قُوامها البرمجة والإلكترونيات وإنترنت الأشياء، وإنسانها روبوتات تقوم مقام العمَّال، وسيارات طائرة وذاتية القيادة تجوب الطرقات.

وعلى ما يبدو أنَّ النمو المتسارع لتقنيات التحوُّل الرقمي والإقبال الواسع على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، باتت هي القوة الدافعة للتحول الاجتماعي والاقتصادي في مختلف المدن حول العالم، بما يُعزز كفاءة استثمار موارد المدن من خلال التقنيات الرقمية الناشئة وتحليل البيانات، وتقديم خدمات تسهم في تحسين مستوى الازدهار الاقتصادي والاستدامة البيئية وجودة الحياة، وتعزيز مستوى كفاءة الإشراف الحكومي في المدينة.

حيث تعتمد المدن الذكية بشكل رئيسي على البنية الأساسية لتقنية المعلومات والاتصالات والطاقة المستدامة، ولعل أكثر ما يميزها تركيزها على الإنسان في المقام الأول، لأنها تستطيع الاستجابة للظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المتغيرة بخلاف المدن التقليدية، ويمكن أن تكون المدن الذكية مدنًا جديدة صُممت وأنشئت بطريقة ذكية منذ البداية أو مدينة تقليدية تم تحويلها تدريجيًّا إلى مدينة ذكية بالكامل.

وأسهمت التطورات التقنية الجديدة في مساعدة الحكومات على تحقيق حلم المدن الذكية؛ ومثال على ذلك: استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتحليل قاعدة كبيرة من البيانات لإثراء عملية صنع القرار، وتم الاعتماد عليها بالفعل في مجالات عديدة منها: البيئة والزراعة، والمؤسسات المالية والمنشآت الصحية والتعليمية، كما تم ربط الأجهزة وتبادل البيانات وتدشين أنظمة تحكم مركزية؛ لتوفية استهلاك الطاقة وتحسين إدارة المرور، كذلك الشبكات الذكية التي تستخدم تقنية الاتصالات في إدارة شبكات الكهرباء؛ إذ توفر معلومات عن نمط استهلاك الطاقة وتوفير عدّادات ذكية تساعد في تحسين استخدام الطاقة.

 

الأهداف المستقبلية

وتعمل العديد من المدن الذكية في ظل التوجه العالمي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة على تطوير إستراتيجيتها الخاصة نحو المدينة الذكية، ومن الأهداف العامة التي تطمح إليها المدن: جودة الحياة لتعزيز كل جانب من جوانب الحياة اليومية، من الشوارع الآمنة إلى المساحات الخضراء، ومن وسائل النقل الذكية إلى الفن والثقافة؛ حيث يمكن للمدينة الذكية أن تخلق بيئة تعزز أفضل ما في الحياة الحضرية وتقلل من متاعب الحياة في المدينة.

كما أنَّ الطموحات الاقتصادية التي تطمح إليها المدينة الذكية يُمكن إيجازها في تشجيع الأعمال، وضمان ما يكفي من وظائف لتشكيل اقتصاد صحي، مع السعي لاستخدام التقنية لتحسين الخدمات وخلق الكفاءات وجذب الاستثمار لتعزيز التنمية الاقتصادية؛ حيث إنَّ 2 مليار دولار متوقعة من حجم التوفير المتحقق من تحسين تكلفة خدمات المدينة التشغيلية، في حين متوقع 50 ألف من الوظائف المستحدثة من مبادرات المدن الذكية في مجال الاقتصاد المعرفي.

 

 

هذا وتساعد المدن الذكية على ضمان تعزيز النمو الاقتصادي ونوعية الحياة ليس فقط على المدى القصير؛ بل للأجيال القادمة أيضًا، وتعتبر الإدارة الحكيمة للبيئة والاستهلاك المستدام للموارد الطبيعية من العناصر الأساسية للرؤية الشاملة للمدينة الذكية، ومن أهم مبادرات المدن الذكية 60% من حفظ الموارد الطبيعية وتقليل الانبعاثات الكربونية من خلال إدارة النفايات والمياه، كذلك 30% من خفض الانبعاثات الكربونية من عوادم السيارات في قطاع النقل من خلال مبادارت المدن الذكية؛ حيث تطمح المدن الذكية إلى خفض هدر المياه والطاقة ورفع كفاءة الاستهلاك باستخدام التقنيات في المباني الذكية والإنارة الذكية للشوارع وغيرها.

 

الاقتصاد الذكي

وللوصول إلى المدينة الذكية، فيجب تنسيق الجهود وتحقيق التعاون لإنشاء الرؤية والتخطيط للمستقبل، وهنا يبرز دور كافة الأطراف ممثلة في الحكومة بمشاركة المسؤولين في وضع الرؤية ومواءمة موارد المدينة والبنية الأساسية معها، وتطوير التشريعات والسياسات بما يخص التقنيات الناشئة والبيانات، إضافة لدور القطاع الخاص في التطوير الابتكاري لمشاريع وحلول المدن الذكية بما يوافق توجهات المدينة، والاستفادة من تجارب العملاء العديدة للقطاع الخاص في بناء الخبرة والقيادة الفكرية لتوجيه مبادارت المدن الذكية إلى الأمام، وكذلك التعليم حيث يمكن لمؤسسات التعليم العالي كالمراكز البحثية أن تُساعد في تحديد الحلول المبتكرة للمشكلات الشائعة، ويكمن دور الجامعات في استقطاب الكفاءات وتوجيهها في المجالات الواعدة ذات العلاقة بالتوجهات الوطنية نحو المدن الذكية، وأخيرًا المواطنين فالفرد هو مفتاح النجاح في أي مدينة ذكية، وتعد مشاركة المواطنين وتأييد المجتمع أمرًا بالغ الأهمية.

وبالمقابل، يظل الاقتصاد الذكي مطلبًا لدعم المجتمع مع اقتصاد محلي مزدهر من ما يعزز الابتكار، وتحسين القدرة التنافسية وخلق وجذب المواهب، وتعتبر الشركات التي تقدم خدمات تقنية المعلومات والبيئة والطاقة هي القوة الدافعة للاقتصاد الذكي كالروح الابتكارية وريادة الأعمال والإنتاجية، إضافة إلى مرونة سوق العمل.

فالتنقل الذكي والذي يعني اعتماد نظام نقل رقمي مبتكر ومستدام من أجل مساعدة سكان المدن على التنقل حتى دون الحاجة لامتلاك سيارة، وأن تكون وسائل النقل آمنة ومنخفضة التكاليف، وكذلك التجارة الذكية لتوفير التقنيات اللازمة لتسهيل وتسريع التجارة من خلال بنية تجارية أساسية مترابطة لتعزيزها، وجعلها أكثر استدامة وكفاءة كالنقل اللوجستي الذكي، ومساحات العمل المشتركة، ومنصات العمل الحر، إضافة لقطاع الطاقة والبيئة لتقليل استهلاك الطاقة والذي يتضمن خفض الانبعاثات الضارة للبيئة، وتكليف الشبكات الذكية وأنظمة المراقبة بتوليد الطاقة وتخزينها واستهلاكها كالشبكات الذكية، وإدارة النفايات والتلوث، والطاقة المتجددة والعدادات الذكية.. كلها ركائز لاقتصاد ذكي آمن ومستدام.

 

الاستثمار في المستقبل

إلى ذلك، تلعب المدن الذكية اليوم دورًا مهمًّا في اقتصاد العالم؛ باعتبارها أحد محفزات النمو الاقتصادي، كما توفر باستخدام التقنية والذكاء الاصطناعي مستويات عالية من الرفاهية للسكان وتحسن من جودة الحياة. ويعد سوق المدن الذكية ضخمًا؛ حيث أنه من المتوقع أن يصل حجم السوق إلى 870 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2026م مسجلا معدل نمو سنوي مركب بنسبة 13.8%، كما أن من المتوقع أن تطوير المدن الذكية في جميع أنحاء العالم سيخلق فرصًا تجارية بقيمة 2.46 تريليون دولار أمريكي وإيرادات بقيمة 241.02 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025م.

وتظهر الإحصائية حجم سوق استثمارات المدن الذكية وذلك بحسب إيردات مجالات الاستثمار، كما تظهرتقاربًا في نسب الإيرادات وزيادة بنسبة 300%، ومن المتوقع أن يصل حجم الإيردات إلى 2 تريليون دولار في عام 2025م مقارنة بـ600 مليار دولار في العام 2018م. وتوضح الإحصائية حجم الإنفاق على مبادارت المدن الذكية في جميع أنحاء العالم خلال عام 2020م بحسب المنطقة، وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية أكبر حجم إنفاق بحوالي 26% من الإنفاق العالمي على المبادرات التقنية للمدن الذكية، ومن المتوقع أن يرتفع حجم الإنفاق التقني على مبادرات المدن الذكية في جميع أنحاء العالم بأكثر من الضعف بحلول عام 2023م؛ حيث أن سيرتفع ليصل إلى 189.5 مليار دولار في عام 2023م مقارنة بـ81 مليار دولار في عام 2018م.

 

قياس تطور المدن الذكية

ولكن كيف يتم قياس تطور المدن الذكية؟ هناك العديد من المؤشرات العالمية التي تُعنى بقياس ومقارنة نضج المدن الذكية في القطاعات والأبعاد المختلفة، ويقوم قادة المدن باختيار المعايير والمؤشرات المناسبة لمتابعة تطور المدن لجعلها أكثر ذكاء واستدامة، ومن ضمن هذه المؤشرات مؤشر الاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة (U4SSC)، ومؤشرات الأيزو للمدن الذكية، وكذلك المؤشرات التي تقدم ترتيب ومقارنة المدن ببعضها مثل مؤشر المعهد الدولي للتنمية الإدارية للمدن الذكية (IMD).

هذا وتمثل تقنيات إنترنت الأشياء والبيانات والذكاء الاصطناعي أساسَ مدن المستقبل الذكية؛ حيث توفر هذه البيانات الربط التقني لخدمات المدينة والسهولة في مشاركة البيانات، والتمكن من بناء تطبيقات ذكية تسهل حياة السكان، وبدأ تطور المدن الذكية بالتطور المعلوماتي والتقني رقمنة المدينة بإشارات المرور مثلا ومن ثم الربط المتكامل لخدمات وبيانات المدن لتصبح المدينة المتصلة "connected City" ليتجه تطور المدن بعد ذلك نحو المدينة الإدراكية "Cognitive City" بحيث يكون محور المدينة هو الإنسان الذي يماشي تطور المدينة حسب احتياجات ساكنيها لرفع جودة الحياة.
 

عُمان وسباق المستقبل

وفي سلطنة عُمان، تستهدف أولويات وأهداف رؤية "عُمان 2040" بناء مدن ذكية ومستدامة ذات بنية تقنية متطورة، وهي مرتبطة بأولوية وأهداف إستراتيجية تنطلق من أهمية تنمية المدن والمراكز الحضرية لتكون قادرة على النمو والانفتاح وتعزيز الإنتاجية والقدرة على الإبداع والابتكار، الأمر الذي يظهر اليوم جليا في تنمية المحافظات، وتلك الصلاحيات الإدارية والمالية التي أُسندت لها لكي تستطيع الانطلاق بناء على المعطيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المتوفرة في كل محافظة.

وكانت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية "الإسكوا"، قد أكدت أنَّ سلطنة عُمان جاءت بين ست مُدن عربية تشهد تحولًا نحو المدن الذكية المستدامة. وقالت "الإسكوا" -في تقرير نشرته عبر موقعها الإلكتروني- إن بضعة بلدان عربية أعلنت عن مشاريع متوسطة وكبيرة الحجم للتحول للمدن الذكية المستدامة لحل مشكلات التحول الحضري، والاستدامة القائمة حاليا، وتقديم أنواع مختلفة من الخدمات الذكية لمواطنيها، كما هو الحال في عُمان وجدّة والجزائر ودبي والرباط وعمّان.

وحسب التوجه الحالي لانتقال الكثافة السكانية إلى المدن، فمن المتوقع أن يقطن أكثر من ثلثي سكان العالم في المدن الذكية في العام 2070م، وهذا ما تشير إليه تقارير الأمم المتحدة؛ لذا تعتبر المدن المستدامة من أهم أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDG) ةمن هذا المنطلق تتجه العديد من المدن عالميًا لتحقيق مبدأ المدن الذكية عن طريق تسخير التقنيات الناشئة مثل البيانات والإنترنت والذكاء الاصطناعي.

تعليق عبر الفيس بوك