الشاعر حمد بن عيسى الطائي.. قِفْ حَيِّهِ بطلًا عظيمَ الشانِ

 

 

ناصر أبوعون

من وجهة نظر سوسيوثقافية، فإن الشاعر حمد بن عيسى الطائي جاء إلى الحياة وهو منطبع بملامح جسدية وسمات شخصية آتية من الماضي البعيد، حلَّت عبر سلسلة لا تنتهي من الجينات الوراثية التي تنتقل وفق قانون إلهي مرسُوم مُسبقًا من جيل إلى الجيل الذي يليه، فضلًا عمَّا قامت به البيئة من عمليات تشكيل للعديد من الأنماط الظاهرية، وما راكمته حركة الحياة من خبرات اجتماعية مُكتسبة في صقل تجربته الشعرية والإنسانية، ناهيك عمَّا خطته يدُ الجغرافيا من تضاريس في صفحة عقله، وألقتْ بظلالِها على إنتاجه الشعريّ.

الأخوان القاضيان الشيخ عيسى والشيخ محمد أبناء القاضي الفقيه صالح بن عامر الطائي.png
 

هنا.. نحاولُ إيجاد مقاربةً ننفذ منها إلى إبداعه، وتوثيق المؤثرات المباشرة في شعره، وانتهينا إلى عوامل خمسة أسهمت في تشكيل شخصية الشاعر، وتركَت آثارًا واضحة المعالم على صفحة الصورة الذهنية السائدة في مخيلة الأجيال الشابة التي لم تلحق به؛ سواءً في بيئة العمل أو المحيط العائلي، أو المنتسبين إلى مُؤسسته التجارية التي أنشأها في مطلع سبعينيات القرن العشرين، فضلًا عن تلك الصورة الواقعية التي انطبعتْ في ذاكرة من عاصروه وخالطوه عن قرب، وطالعوا الجانب الإنسانيّ الذي استحوذ على المساحة الأكبر من ملامح شخصيته.

1.png
 

 

الكاريزما وقوة التأثير

لقد كان الشاعر -حكايةً عمَّن عاصروه- يتمتع بسمات واضحة المعالم من الكاريزما وقوة الحضور؛ رغم أنه كان أبعد ما يكون عن طلب الشهرة، أو السعي وراء النجومية، وقد اجتمعتْ فيه "صفات القيادة والقدرة الفذة على التأثير في محيطه"، ولكن ليس ذلك ما يميز شخصيته الشعرية والاجتماعية فحسب، لقد كان غالبًا ما يبدو -لمن تعرَّفوا عليه للوهلة الأولى- كشخص عاديّ، لكنه في حقيقته يتمتع بسمات شخص ذي كاريزما "مُخلص لأفكاره، ومُستعد لأن يصل إلى أبعد مدى، ولا يهمه أعداد الذين معه لأنه سيعيش ويموت من أجل أفكاره التي آمن بها، بغض النظر عن أتباعه أو قوة أعدائه"(1)، ونسوق هنا بيتين من قصيدة كتبها لابن عمه وزوج أخته الأديب عبدالله بن محمد الطائي، وخِدنه الأدبي، والوجه الآخر من شخصية الشاعر وصِنوه، التي لا ترضخ أمام الإغراءات أو تقهرها التحديات وتقلبات الحياة التي اعترضت مسيرة نضالهما داخل عُمان وخارجها، فحطما معًا المستحيل بمعاول الإرادة، وسعيَا سويًّا نحو تحقيق الهدف المرسوم؛ مهما اعترضت طريقه كلُّ عقبة كؤود.. يقول الشاعر:

قف حيِّه بطلًا عظيم الشان // جعل الكفاح طريقه لعُمان

في شعره الثوريّ خلّد ذكره // فاقرأ تجد حربًا بغير سنان

 

 

السلطان قابوس يتوسط الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي والشيخ أحمد الخليلي.png
الترحال والهجرة

شكّلت ثيمة السفر والتنقل محورَ حياة الشاعر، وطبعت شخصيته برغبة وثابة إلى اكتشاف المجهول واتساع الأفق، وخوض معامع المغامرات، فتنقّل بين حواضر الخليج منذ خمسينيات القرن العشرين وصولًا إلى مطلع فجر النهضة المباركة مع بزوغ إطلالة السبعينيات، ثم الانطلاق بعدها في رحلات مكَّوكيَّة لا تهدأ خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات نحو البلدان العربية والأوروبية، في سفرات شتى تعددت أغراضها ما بين السياحة والتجارة والزيارات الرسمية، وقد خلّفت أثرًا انطبع في شعره، وأثرت تجربته الشعرية والحياتية.

الشيخ حمد الطائي في اجتماع غرفة تجارة وصناعة عمان.png
 

"وإن كان يُجمع معظم الدارسين أن وراء الهجرة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وادبية ونفسية، فهذه الأسباب قد تضافرت جميعها أو معظمها على هجرة المئات ممن تهيأت لهم ظروف الهجرة، وعلى الرغم من أن هذه الأسباب كانت كثيرة ومختلفة، إلا أن العامل الاقتصادي كان أول العوامل التي دفعت بالمهجرين أن يغادروا أوطانهم، وينأوا عن أهليهم، ويعانوا آلام الفراق، وحالات الغربة بما يضني نفوسهم، ويعمق إحساسهم بحب الوطن" (2)، وهو السبب الرئيس وراء سياحة الشاعر حمد الطائي وترحله في الاتجاهات الأربعة للأرض؛ ومن عيون شعره في هذا المعنى قوله:

الشيخ حمد بن عيسى الطائي في رحلة إلى باريس تحت برج إيفيل.png
 

ته يا زمان فحسب يومك وصمة // إن الكريم الحر فيه مشرد

لا أرتضي ذلا بقرب عشيرتي // بل أبتغي عزا يشط ويبعد

فلسوف أقتحم البحار مغامرًا // حتى أنال من العلا ما أنشد

وإليك مني يا زمان قصيدة // ذكراك تبقى بينها وتخلد

 

الطبيعة وذاكرة المكان

نشأ وعاش الشاعر حمد بن عيسى الطائي مع إخوته وأبناء عمومته وأحفادهم الطائيين في بوشر، مسقط رأس كثير من الأجيال المتعاقبة منهم، ومهوى قلوبهم ومربط أشعارهم، ومسكن وجدانهم؛ وصارت بساتينها ملاعب الصبا، وعاشوا في ظلال أفيائها، وعبّوا من مجاري أفلاجها، وقرضوا فيها الشعر، وتغنوا بأيام الشباب تحت نخلاتها الباسقات، وقد تغنَّى بها في شعره وحمَّلَ "مُفْرَدَتَها" شحنات شعورية جمّة، تناثرت في صفحات مخطوطه الشعريّ وتداولتها الألسن في صدور المجالس. ومن يدرس المنتوج الإبداعي وخاصة الشعريّ لعائلة الطائيين من الأخوة وأبناء العمومة والأحفاد وما خلّفته من تراثٍ أدبيّ يجد بوشر حاضرة في كل زاوية من سيرهم الذاتية، ومنتصبة كسارية فخار وسؤدد في كل مخطوط تاريخي، وعلامة مضيئة في آثار أبناء وأحفاد الشيخ عيسى بن صالح الطائي قاضي قضاة مسقط.

ولم تكُن ذاكرة بوشر خُلوًا من المعالم الآثارية في تلك الأيام التي تقلّب الشاعر بين ظهرانيها، وسرح في ملاعبها وتحت ظلال أشجارها؛ ووقف بين يدي الله في مسجد "النجار" بها، وهو من معالم القرن الثالث عشر الهجري، وكلما أنهكه التعب برّد حرارة جسده أيام القيظ المحرقة بالسباحة في (فلج بو سمان) الساقي لبساتينها، وكم تنسّم عبق التاريخ العمانيّ الزاهر في حوائط (حارة العوراء)، وتصعَّد ببصره متأملا في (برج ورولة)، واستمسك بجذوره المتأصلة في أرض عُمان الطيبة، فانطبعت روحه بالتقاليد العُمانية الأصيلة؛ المنبعث أثيرها طوَّافا بين بيوتها وحاراتها، ومستندا لحيطان (سبلة فلج الشام)، ولطالما استبصر المجد المخبأ في حصن وقلعة "الفتح"، وكثيرا ما استنطق التاريخ الصامت في (بيت السيدة ثريا)، واستقرأ النفوس وحفظ سمات الشخصية العمانية في وجوه مرتادي (سوق بوشر القديم)، ومما يؤثر عنه من أبيات ورد فيه اسم بوشر قوله:

أما لبوشر واشتياقي نحوها // حدث بما تهوى من الأخبار

هي جنة الدنيا ودرة تاجها // خلقت من الأشجار والأنهار

وبمائها وفراغها وأمانها // كملت محاسنها بلا إنكار

الله ينشط أهلها للعلم كي // تحظى زعامته على الأقطار

وكذاك يغنيهم فينقذهم بها // تحظى من خدمة الأعجام والأشرار

ثم الصلاة على النبي محمد // ما غنت الأطيار على الأشجار

 

البيئة العلمية والأدبية

نَشَأ الشاعر حمد بن عيسى الطائي في بيت علم وفخار وسؤدد؛ فآباؤه قضاة وفقهاء وكانوا عونا لدولة اليعاربة إبان علوّها، فجده هو"الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي، وأبوه الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ (قاضي قضاة مسقط)، وعمه الشيخ القاضي محمد بن صالح الطائي، وأبناء عمه وأصهاره الأخوان عبدالله الطائي وزير الإعلام الأسبق، ونصر بن محمد الطائي مؤسس وصاحب امتياز جريدة الوطن العمانية، وأخوه الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائيّ، وكان سائر أعمامه وإخوته أعلاما في العلوم الشرعية والقضاء والأدب، ومَعين نبوغٍ لا ينضب عطاؤه حتى اليوم، وخزانةً مكتنزةً بأصول الفقه ومراجع في القضاء أبوابها مشرعة لا تُوصد، وتشعُّ منها أنوار العلوم الإسلامية، وتستضوأ الأحكام والأصول من مشكاة السابقين الأولين، لتروي ظمأ العقول التواقة للمعرفة من خلاصة اجتهادات علماء عُمان النابغين، وتنير الدروب المُعتمة؛ بأنوار الأقطاب الأماجد النابهين.

لقد كان الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي بحرًا في العلوم، ونهرًا في الكرم ران على قلبه حبُّ الأضياف، والاستئناس لانثيال الناس وانصبابهم على مجلسه من السادة والعوام، والعلماء والطلاب، وكان مريدوه وزوّاره على اختلاف مشاربهم سواسية؛ لا فرق عنده بين هذا وذاك؛ فبسط لهم يد السخاء، وباعد بين مصاريع بيت الشريشة؛ فلم تُغلق يوما ليكون مأوى للقاصدين من أنحاء عُمان وخارجها إلى مسقط؛ ومما حكاه "السيد سعيد بن هلال بن محمد البوسعيدي" أنّ "سبلة الفوق" للشيخ هاشم وعائلته في (سيبا المال) بقرية (بوشر) كانت مركز ضيافة ومدرسة في آنٍ واحد؛ عامرة بالضيوف، وتُقرأ فيها كتب الفقه وأصوله، مع العلوم النافعة والأداب والفوائد وطرائف الحكم وغرائبها المستطرفة (3).

وفي كثير من الوثائق التي وردت فيها قرية (بوشر)؛ يتردَّد اسم "سيبا المال" وهو اسم مكان ومَعْلم من آثارها جاء مقترنا باسم "الشيخ القاضي عيسى بن صالح بن عامر الطائيّ (الطيوانيّ)"، وأبنائه وأحفاده من بعده؛ حيث حطّ فيها رحاله قادما بصحبة والده من (سمائل الفيحاء).. وفي هذا نقرأ له شعرا يقول فيه مفاخرا:

إن تسألي عني فإني ماجد // من آل طي دوحة المجد المجيد

وهم الذين بمجدهم وبجدهم // قد أورثوني ذروة المجد التليد

وأنا الذي شعري يتيه فصاحة // وبلاغة في غرة العصر الجديد

 

الحياة السياسية العُمانية والخليجية

لقد كان الشاعر حمد الطائي شاهدَ عيان على فترة ذات خصوصية من تاريخ عمان؛ بل كان في القلب من أحداثها، ومشاركا فيها ما بين أربعينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهي فترة عظيمة الأثر وأسهمت في تشكل تاريخ المنطقة هذه البقعة من جغرافية الوطن العربي الكبير، وقد عاصر معظم أحداثها التي ألقت بظلالها على مستقبل عُمان وحواضر الخليج العربي، وامتدادها الإسلاميّ، وقد كان قارئا ومطلعا على "التاريخ السياسي العماني منذ مهاده الأولى، وعلاقة عمان بدول الجوار، وتعرضها للأطماع والتدخلات الخارجية... "و"مقاومة العمانيين لهذا التدخل والنزعة العمانية للاستقلال وحكم أنفسهم وفق إرادة وطنية عربية إسلامية..." وكان شاهد عيان على "الصراعات السياسية" بين الإمامة وسلطنة مسقط وعمان، "والتدخلات الخارجية التي انتابت هذا الجزء من الوطن العربي؛ مما أدى إلى عزلة قسرية فرضتها عليه ظروف داخلية وخارجية أدت إلى تقسيمه... بعد أن كان العمانيون يتسيدون أشرعة السفن حاملين رسالة دين وحضارة وعلم إلى البلدان التي حلّوا بها وبسطوا نفوذهم عليها" (4). فضلا عن ترشحه لعضوية مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة عمان، واهتمامه بتمتين العلاقات الاقتصادية لسلطنة عمان وقطاع عريض من دول العالم فسافر إلى ألمانيا واليونان وفرنسا وأمريكا، واهتم في هذه المرحلة بالسياسات الاقتصادية.

ونسُوق هنا مقطعا من قصيدة للشاعر بعنوان: "طيور الأنس تشدو"؛ كتبها أيضًا لابنه عمه عبدالله بن محمد الطائي بمناسبة عودته من البحرين؛ يعرّج فيها على الأحوال الاقتصادية والسياسية التي دفعت بكثير من العُمانيين إلى الهجرة والتنقل بين حواضر الخليج؛ طلبا لمؤنة العيش الكريم التي افتقدوها في ديارهم، وظلت جاثمة على صدورهم، إلى أن شاء الله فرفع عنهم الغمة بمجيء السُّلطان قابوس إلى سُدّة الحكم برفقة عمه السيد طارق بن تيمور -رحمة الله عليهم أجمعين- يقول فيها:

رأى الأوطان فيها كل حر // مهانا والكرامة للدخيل

فخاض بحارها وطوى البراري // لينهل منهل المجد الأثيل

وقال عمان عنك ألا فإني // أسلي النفس بالصبر الجميل

------------------------------

إحالات مرجعية:

(1) أصحاب الكاريزما، د. إيهاب فكري، ص: 52.

(2) "الشعر العربي الحديث"، د. سالم الحمداني، وفائق مصطفى أحمد، ص:211، مطبعة جامعة الموصل، 1987.

(3) مقابلة موثقة في حاشية كتاب "الطائيون الأوائل": مع السيد سعيد بن هلال بن محمد البوسعيدي، بمكتبه في روي، يوم الثلاثاء 20 من شوال 1442هجرية، الموافق له 01/06/2021.

(4) "تاريخ عمان السياسي"، تأليف عبدالله بن محمد الطائي، ص: 4، ط1، 2008، مكتبة الربيعان للنشر والتوزيع.