من أدبيات ريف ظفار

 

علي بن سالم كفيتان

نطق المساء من واقع احتضار الشمس بعيدًا خلف الجبال، تبقى منها وهج بنفسجي هيج خاطر الراعي الجالس إلى جوار كومة الرماد، ينبش فيها عن جمرة ضائعة في ذلك السديم الأزلي منذ قدوم الراعي الأول إلى هنا؛ فجميعهم يجمعون الحطب ويشعلون النار على نفس الكومة؛ حيث تتجمع النوق في المساء وهي تتلو أناشيد الحزن، فالرزيم يوحي بالبكاء وربما أشياء أخرى فهذه المخلوقات العجيبة تخضع لسلطة ذلك الرجل الشاحب المتوشح بالسواد وفي كل مساء يستقبل أم القطيع ويهدهد على رأسها لتضعه على كتفه تستريح لبضع ثواني ثم تكمل طريقها؛ حيث النار المشتعلة وإلى جوارها القليل من الزاد وقربة ماء؛ فالرجل بات وحيدًا في هذا الكون وتقدم به العمر ولا سلوى سوى مع النوق والنار.

قالت لي الشمس ذات مساء إن هذا الرجل أحب بنتًا جميلة من الديار البعيدة خلال تطواف الرعاة الذي لا ينتهي بحثًا عن المطر فقد تعودوا على ملاحقة الربيع أينما حل في هذه الأرض الفسيحة، لقد أسرته الفاتنة، فحاول أن يقنع بقية الرعاة بالمكوث لفترة أطول، لكن الأرض أجدبت والرحيل هو سيد الموقف. ابتعد المهاجرون خلف أحلامهم الخضراء عن ديار الحبيبة، بينما ظل هو يجر قدميه خلف هذا الموكب المهيب. جميع أصوات الرعاة تتعالى في زهو إلّا هو، ظل صامتًا. وفي تلك الأثناء، عاد الكل للخلف للبحث عن أم القطيع "طيب"، لم تكن معهم، هنا تولد السبب للعودة؛ فأخذ على عاتقه البحث عنها وطلب من الركب أن يكملوا المسيرة، وبعد أن غابوا عن عينيه وتشتت أصواتهم في الآفاق، عاد إلى وجهه السرور، وقال ربي لن يخيبني لقد جعل الناقة "طيب" سببًا لعودتي، فأطلق سيقانه للريح حتى بلغ الدار، ولم يكترث بالبحث عن طيب، لقد كان قلبه مشدودًا إلى حيث يسكن الحبيب، فقابلته بحشمة بنات الريف سائلة... ألم ترحل؟ فأجابها: لقد أعادتني "طيب" لأراكِ، هنا توارت عنه بينما هو ظل متسمرًا في الدار حتى حضر الرجال في المساء، فسألهم عن ناقته المتمردة، فوصفوا له أنها في رابية ليست ببعيدة. انطلق إليها حيث وجدها تبحث عنه وعن بقية القطيع، استجابت لصوته وسكنت من رزيمها، واقتادها إلى الدار لينيخها جنب النار، وأحاديث الرعاة التي لا تنتهي. وعندما جن الليل وذهب الجميع، خطب الراعي تلك الفاتنة من أبيها العجوز القابع جنب الموقد، فلم يجبه الرجل بنعم ولا بلا!

وعندما حل الصباح، أخذ ناقته وشق بها السهل الفسيح تاركًا كل آماله وأحلامه في يد ذلك العجوز، فقال وهو يحدث نفسه: لم ألح عليه خوفًا من الرفض، مفضلًا البقاء على أمل. وفي اليوم التالي التحق بالركب العائد إلى الديار، وعندما استقر المقام في المراعي الجديدة في جبال القمر البعيدة مسير أيام عن دار الخليلة، صار الرجل يطوي المسافات كل يوم بين الشرق والغرب، فيذهب كل يوم ضحى ولا يأتي الظهر إلا وهو عند الدار، وقبيل العصر يسابق الريح ليعود أدراجه، ومع كل ذلك الشقاء اليومي، إلّا أنه ظل سعيدًا ومُستبشرًا، ولم يُرى في زهوٍ أكثر من تلك الفترة. واستمرت قصة الحب العذري لسنوات يطوف خلالها بالديار ويطلب يد الحبيبة إلّا أن العجوز لم يرَ خيرًا في هذا الزواج، وظلت سلمى ترفض كل المتقدمين لها، فكانت حرب باردة بينها وبين أبيها، حاولت الام التدخل، لكن الشايب مصمم على رأيه.

مرت السنون وظل الرجل يحج إلى الدار، فلا يكاد يمر يومين إلّا وهو حاضر، وكنوع من التعجيز وافق الاب على الزواج بشرط أن يكون المهر 100 ناقة، فوافق الرجل وسعى في مهره، ولم تمر سوى بضعة أشهر غاب فيها عنهم، إلّا وهو يقود ذلك القطيع. وفي الطريق وجد رجل عليه ديةً يطلب، فوهبه 3 نياق، وعندما وصل عند الاب عد الإبل فوجدها 97 ناقة، فذكر له القصة فرفض تزويجه. وفي ظل تلك الجلبة حضر رجل آخر وتبرع بالناقص من المهر، فأكمل المئة إلّا أن العجوز تراجع عن رأيه، وقال اريدها جميعًا من سلالة بنات "طيب" التي ورثها من خلف آبائه واجداده، فعلم أنه حتى لو أتى بهذا المهر لن يظفر بها، فعاد أدراجه وظل يسعى بين داره ودارها، لا يمنعه هجير شمس الصيف ولا مطر الخريف أو عواصف الشتاء، حتى اخذ الله أمانته وظلّت هي وفية له ولم تتزوج طوال حياتها.

يُقال إنها أوصت أن تقبر إلى جانبه وأن تذهب ثلث أبلها كصدقة جارية عليه.