معاوية الرواحي
تسألني أستاذةٌ قديمة من أساتذتي، تعقيبًا على مقالٍ سابقٍ لي تناولتُ فيه برزخ الشتات بين لحظةِ الكاتب الرصينة، وتلك المتناثرة في فضاءات الحضور الاجتماعي، الشخصي كان، أم ذلك الإلكتروني الذي عشعش في أنامل الكتاب في الزمن الحديث.
يقول سؤالها: "نحن كبشر ننساق بسهولة وراء عوالم الشتات والأحاديث القصيرة. لماذا؟ هل هو هروب من التعلق والارتباط بالنَّاس والأشياء؟".
ما الذي يفعله المبدعُ عندما يشغلُ نفسه عن مهنته، ومساره، ومسيره، وآماله الإبداعية لينساق وراء عالم الشتات والأحاديث القصيرة! هل هو هروب من التعلق؟ أم هروب بسبب التعلق؟ هذا سؤال يجب الإجابة عليه قبل أن نفهم الدافع الذي يجعل عازفاً موهوباً يتجاهلُ آلته الموسيقية، وحفلاته التي تُلاحق جدوله الحافل بالنجاح، والمال، لينشغلَ ساعاتٍ طويلة وهو يلعب (الورقة) مع رفاقه في (عزبةٍ) من العزب في مزرعة بعيدة شبه نائية، لن تخلو الجلسة من استراحات لعازف الكمان الرهيب الذي يعزف في دور الأوبرا حول العالم، وستخلو من الذين يفهمون إلى أي مدى ذلك العازف بارع، وكبير، وله قيمته العالية في حقل الإبداع والفن. ما الذي فعله هذا العازف في هذا المثال؟ هل هربَ ارتباطه بالأشياء، هرب إلى الناس!
كيف نلجأ إلى هذا الشتات المتكون من الأحاديث القصيرة، هربًا من الناس؟! ربما.. لأننا نريدُ استراحةً من علاقاتنا الدائمة، إيقاف النقاش مع الأخ الكبير المشاكس، أو مع الابن المشاغب؛ بل وحتى من التصاق الطفلة الصغيرة، أو الزوجة المتطلبة، أو الأبِ اللحوح، أو الأمِّ كثيرة التشكي والنقد، هُنا هروبُنا يحمل طابعا معاكسا، نأخذ استراحةً صغيرةً نجربُ فيها (وجبةً) اجتماعيةً سريعةً، دسمة، مليئة بالضحك، والتعارف، والإشباع النفسي، والنشوة، بل وربما ندغدغ آمال صناعة صداقات جديدة، وعلاقات جديدة مدهشة، ونخرج من دائرة الاستمرارية التي تُشعرنا أحياناً بالحصار، وبانعدام الخيارات.
عندما يفعل الكاتب ذلك.. لماذا يفعله؟ الكتابة بشكل ما أو بآخر طاقة وظروف، دقيق يكفي لصناعة كعكةٍ كبيرة تتوزع على عدد كبير من الناس، لا يهم التشبيه، يمكنك أن تشبه طاقة الكتابة بكمية هائلة من الرز يكفي لإطعام قبيلة جائعة، أو بخزان من الماء يكفي لري مزرعة كاملة. التشبيه غير مهم، الفكرة تتلخص في أن الكاتب لديه مخزونٌ جاهز ليتحول إلى جلسات إبداعية متتالية قد تتحول إلى كتاب، أو إلى مقالات عديدة، ما الذي يدفعُ الكاتب إلى شتات الأحاديث القصيرة؟ كما في مثال العازف سابق الذكر.
هناك سبب ما خفي، وهو "جدَّة المحتوى"؛ فالكاتب كائنٌ يجد نفسه وقد تناسلت الأفكار الجديدة في عقله، وتفاعلت، وكوَّنت ما يشبه المادة الجاهزة التي كل ما عليه فعله حيالها هي جلسة من الكتابة. ينجذب الكاتب إلى منصات التواصل الاجتماعي (وهي ما يقصد به بالشتات، والأحاديث القصيرة مع الغرباء) لأن مُتعة هذه المنصات، فضلا عن وجود المادة الجديدة "المحتوى" إضافةً إلى براعته وخبرته تكفي لطبخ وجبة من الوجبات الاجتماعية السريعة، ثلاث ساعات كان يمكن أن تذهب لكتابة مقال رصين تحولت إلى عشرات التغريدات والمناشن (mentions) وغيرها من التفاعلات المشتتة، بلا تركيز، بلا تجويد للنص المكتوب، وفي الوقت نفسه بمتعة بالغة، وبإضافة إلى رصيد الخبرة الاجتماعية، وتمرين على فن الردود، والتواصل، وترسيخ للحضور الاجتماعي، والأهم تصالحٌ مع اشتراطات قارئ الزمن الجديد الذي يريد قراءة نص قصير للغاية، بدون شروحات، مليئا بالمعاني المجردة، والمفاهيم غير المثبتة، خاليا من الجدال مع الآخر خارج النص، ومن الجدال الداخلي داخل النص.
يوزع الكاتبُ الدقيق الذي كان يكفي لحفلةٍ دسمة لقارئ نهم ليجعله في قالبٍ في الفرن مليء بالكعك الصغير، ينثره بجذل، ونشوةٍ، ويخرج من جلسة الكتابة تلك مشبعا نفسيا، يشعر بالحبور والنشوة، هذا على فرض أن جلسة الكتابة الإلكترونية المشاع تلك قد مرت بسلام، وعاد منها سالما غانما يشعر بالتحقق، ودغدغ ما يكفي من آلامِه، وغير جوَّ العلاقات الدائمة في حياتِه، وربما عاش القليل من الأوهام عن إمكانية أن يختار حياةً أخرى غير حياتِه، وغيرها من المغريات المتعلقة بالتواصل مع البشر.
الجلوس إلى طاولة الكتابة، وعصر الحروف من الذهن، ونحت الجمل، والتأمل في النص، وإعادة تركيبه عملية أحادية الجانب، النصُّ يستنزف الكاتب ويأخذ منه، والتحفيز الوجداني الذي يقوم به الكاتب تجاه نفسه يستنزفه أيضا، من النادر أن يمنحك النص مكافأة تفوق الفعل الجماعي الذي يفعله الأصدقاء في منصة مثل (الفيس بوك) أو في منصة مثل (تويتر)، الغريب في هذا الزمان هو أن يعتزل الكاتب كل هذه المنصات المليئة بالحلوى الهرمونية ليكتبَ منعزلا، هذا هو الذي يجب أن يُشار إليه بالمستغرب.
عالم الشتات والأحاديث القصيرة، نهرب منه وإليه، هرب من المؤقت في حياتنا إليه، ونهرب من الثابت في حياتنا إليه. أظنُّ أننا نستخف كثيرا بطاقتنا المتوفرة لنكتب، كالذي وفَّر بعض المال ووقع في الاختيارات بين شراء تكييف جيد لغرفته، أو الخروج في رحلة مع الرفاق إلى مدينةٍ مليئة بالملاهي، والمغريات ليعود ممتلئا إلى غرفة خانقة، ومكيف يبث هواء يشبه البخار الساخن.
نهربُ لأننا لا نقيّم الثروة التي لدينا، أو بلغةٍ أخرى، لأننا لا ندرك أن نعمةَ الطاقة التي تمدنا بها أرواحنا تتراكم ببطء شديد يستحق أن نصرفه إلى ما يستحق، مع ذلك، الترويح عن القلوب ساعة فساعة جزء من هذه العملية التفاعلية بين وجدان المرء، وذاته الكاتبه، والآخر بوصفه قارئا وجزئا من مدنية الإنسان المفروضة عليه جينيا، وثقافيا، وحتمياً وفق سيرورة الإنسان الأزلية.