شاب يأمل صدارة ملف الباحثين في 2023

 

د. عبدالله باحجاج

جاءني للمقهى مُقتحمًا انشغالاتي في كتابة مقالٍ عن الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الخليجية لإحدى الدوريات الخليجية المتخصصة في الشأن الخليجي، قائلًا "يا دكتور اعطني قليلًا من وقتك الثمين لكي تسمعني"، فلم يكن مني إلّا الانصياع طواعية له، فمنحته كل أدوات الاستماع والإصغاء، وكل الوقت الذي يستحقه، فبدأ بمُقدمة جاذبة، قدّم من خلالها نفسه بأنَّه من قراء مقالاتي، ومن متابعي تغريداتي على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن المُعجبين بها، ويا له من مدخل سيكولوجي نافذ! بل إنه يمارس أهم فنون الدبلوماسية والجاذبية السيكولوجية دون أن يتعلمها، وجدته يحمل همّ الباحثين عن عمل رغم أنَّه ليس منهم، وقد ابتعدَ عن دوائر قلقهم منذ 3 سنوات، لكنّه يحمل همهم وهواجسهم ومُعاناتهم، ولديه إحساس عميق بهم، مُقدمًا رؤية من واقع المآلات، يمكن تطبيقها، طالبًا مني تسليط الضوء عليها بعد تطويرها.

الشاب اسمه علي قطن، ويبلغ من العمر 23 عامًا، كان يعمل سائقًا، والآن هو مشرف عام في نفس الشركة، سيرته المختصرة دالة على ماهيته، وتعكس طبيعة فكره، وهو كذلك فعلًا من الشباب الإيجابيين جدًا، صبورٌ ومُتفائل بمستقبله، ومتفاعل بإيجابية مع الواقع، وقد رضيَ بمهنة سائق على أمل الأفضل، وفعلًا يسير في تحقيقه بواقعية بعد أن وجد الأبواب تنفتح أمامه، وقد أطلقتُ عليه وصف الشاب الإيجابي أو الرقم الإيجابي منذ الوهلة الأولى، وتأكد لي ذلك عندما وجدته يهتم بفئة محددة من الباحثين عن عمل في إطار اهتمامه الشمولي بكل الباحثين، وكيف ينبغي أن تنشغل بها الجهات المعنية بملف الباحثين مع بداية العام الجديد 2023؟

هذه الفئة هي كل باحث عن عمل تجاوز عمره 35 عامًا، وهناك من تجاوزوا سن 40 عامًا، والشاب يرى أنَّ القطاعين العسكري والخاص لن يستقبلاهم في هذه السن المتقدمة، وأنَّ الأولوية ينبغي أن تنصب حول تشغليهم في القطاعات الحكومية، مستشهدًا بحالة توظفت مؤخرًا في سن 40 سنة في دائرة خدمية حكومية، واصفًا حالتها السيكولوجية قبل التوظيف بالاضطراب الدائم، وبعده بالهدوء والثقة وإقامة علاقات طبيعية، وقريبًا سيُؤسس شراكة زوجية، والحالتان متخيلتان، ويمكن إسقاط التخيلات على كل باحث عن عمل بصورة عامة، وعلى وجه الخصوص تلكمُ الفئة السنيّة التي يستوي ليلها ونهارها، ويزدادُ السواد على مدار اليوم عندما يتأخر كثيرًا الحق في العمل. وقد نشهد ما هو أكبر من الاضطراب السيكولوجي والاجتماعي، وبالتالي، ما يقترحه هذا الشاب الإيجابي ينبغي أن يُؤخذ في عين الاعتبار وعاجلًا، فمن حق هذه الفئة العمرية من الباحثين أن يؤمن لهم فرص عمل في القطاعات الحكومية والعمومية للدواعي السيكولوجية سالفة الذكر، ولأنَّ قوانين التوظيف في القطاعين العسكري والخاص تشترط سنًّا مُعينًا وُجُوبًا، لا ينطبق على هذه الفئة السِنيّة.

وحلَّ قضيتهم في إطار العدد التراكمي للباحثين عن عمل، لا ينبغي أن نعتمد فيه على المركزية في إيجاد فرص العمل؛ فالمسار الذي نقترحه- وقد تناولناه بصورة مقتضبة في مقال سابق- هو إشراكٍ للامركزية، وجعلها المسؤولة عن التطبيق المحلي لقضية الباحثين عن عمل، ومنذ بداية العام 2023 الذي استقبلناه أمس، بحيث تنشأ لجنة دائمة تابعة لمكتب كل مُحافظٍ، وبرئاسته، مكونة من مختلف الشركاء في كل محافظة من القطاعات الحكومية والعمومية والخاصة، وأصحاب الرأي، وأعضاء من المجالس المنتخبة، تتولى مهمة استكشاف فرص العمل داخل كل محافظة، وتعمل عبر الحوارات مع الشركات على إنتاج المزيد من فرص العمل، وتُعِد قائمةً بكل الباحثين عن عمل في كل محافظة، وتشتغل على توظيفهم، من بُعديْها الإنساني والحقوقي، مع التوصية بمنح امتيازات ضريبية واقتصادية لكل مؤسسة توظّف شبابًا إضافيين.

اللامركزية هي الأدرى بخصوصية كل مُحافظة، وحجم الجوانب الإنسانية فيها، والتي ينبغي أن تكون لها الصدارة، وهذا لا يعني استقلال اللامركزية بملف الباحثين في نطاقها المحلي، وإنّمَا مساعدة المركزية على الحل والعمل بتركيز محلي على تطبيقاته وفق سياسات ومبادرات وبرامج التشغيل؛ مثل: البرنامج الوطني للتشغيل؛ حيث ستقود اللجنة مسألة تطبيق هذا البرنامج بإرادتها المحلية وبمسؤولية الشراكة مع فروع المركزية في كل محافظة مثل مديريات وزارة العمل، وهنا يتجسّد مبدأ الشراكة المجتمعية مع مختلف الشركاء اللامركزيين من جهة، والمركزية من جهة ثانية. ويُمكننا الرهان على هذه اللجنة كثيرًا في كسب الرضا الاجتماعي واستيعاب الحق في العمل للشباب؛ حيث سيكون بحوزتها قاعدة بيانات واضحة ومحدودة، ومَعرِفة ميدانية بفرص العمل المتوفرة، وتلك التي ستُنتجها من خلال الحوارات مع الشركات، بحيث يمكن أن تُعطي المحافظين بعض صلاحيات إدارة البرنامج الوطني للتشغيل، كالتوقيع على الاتفاقيات ومذكرات التعاون مع عددٍ من الجهات الحكومية والخاصة المتواجدة في نطاق كل مُحافظة؛ لتشغيل الباحثين عن عمل أو تأهيل وتنمية القدرات الوطنية في مختلف القطاعات، مع إنشاء منصة إلكترونية للإرشاد المهني والتوجيه الوظيفي في كل محافظة، ويكون دور إدارة شراكة البرنامج ضمان تطبيق المسارات الوطنية في كل مُحافظة، والعمل على الاعتداد بحق المحافظات الأقل نشاطًا اقتصاديًا وتجاريًا من غيرها، والتي قد لا تتوافر فيها فرص عمل كثيرة.

هذه الديناميكية هي التي ستجعل ملف الباحثين يتصدر الاهتمامات الوطنية، وستُشَغِّل كل الباحثين، وسيتعزز لديهم أمل الحق في العمل بعدما دخل في مسارات غير واضحة عند البعض، ومن بينهم من تجاوز سن 35 سنة، والذين ينبغي أن تكون الأولوية توظيفهم في القطاعات الحكومية والعمومية فقط. أما الآخرين، فمن خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم يمكن إعادة تأهيل قدراتهم ومؤهلاتهم، ومن ثم توظيفهم عن طريق الإحلال وفق مقتضيات برنامج التشغيل. ويمكن التنسيق بين المحافظات فيما بينها عن طريق وزارة العمل ومجلس المحافظين لتدوير فرص العمل، وجعل المحافظة الأقل إنتاجًا لفرص العمل معتدًا بها في عمليات توزيع وتدوير فرص العمل. في المقابل، دون هذه الديناميكية كيف سنجعل ملف الباحثين عن عمل في صدارة الأولويات منذ بداية 2023؟

المركزية لم تحقق حتى الآن المأمول، كما لم تجعل ملف الباحثين عن عمل في مستويات الأمل المواتية في سيكولوجيّة الباحث، ولا ينبغي الفهم أن هذه الديناميكية محلية خالصة، وإنما هي وطنية في نطاق كل محافظة، وتكون مسؤولية المركزية في المشاريع السيادية التي تُقيمها الحكومة.