العالم بين الصين وروسيا والغرب وأمريكا

 

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

صراع الإرادات وسباق النفوذ والتنافس على الثروات والرغبة في التسيد والزعامة وسعي القوي لكسر قوة الآخر هو الذي يسود العلاقات.

روسيا وريثة القيصرية لم تهضم أن تكون تابعًا أو مجرد دولة حالها حال غيرها وهي التي كانت في أزمنة غابرة دولة عابرة للقارات قبل الاتحاد السوفيتي. والصين عملاق سابق في القرون الغابرة وسابقة على أمريكا والغرب في الحضارة والزعامة والنفوذ لا تستسيغ أن تكون في مؤخرة الدول أو مجرد رقم في عالم تعداد الدول.

الصين تطبخ على نار هادئة وتُعد نفسها اقتصاديًا وتقنياً وتتغلغل في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وتغزو الغرب بهدوء بسلعها وتجارتها. الصين الشيوعية المناهضة في الأصل للرأسمالية منذ سنين خلت وهي تدمج بين الشيوعية كنظام حاكم وحزب شيوعي نافذ وفي نفس الوقت استفادت من الرأسمالية دون الإعلان عن ذلك.

أما روسيا البوتينية ففي عجلة من أمرها بخلاف الصين لتكون رأس حربة لا طرفها في هذا العالم ولكن الغرب لن يتقبل عودتها إلى المشهد السياسي والعسكري والنفوذ الجغرافي.

بعض المحللين والمشتغلين بالسياسة يطالبون دول العالم العربي بالانحياز لمعسكر الصين وروسيا والميل نحوهما بشكل مُباشر في العلاقات البينية والتسلح والاقتصاد بل وبعض يدعو لنقل العلاقات نحو الصين وروسيا بدل أمريكا والغرب؟! فهل هذه دعوة واقعية؟ وهل تستطيع هاتان الدولتان الذب عن حلفائهما؟ وهل لديهما من الإمكانات اللوجستية والقوة الناعمة والتغلغل الثقافي ما لدى أمريكا والغرب؟!

والبعض يبرر تلك الدعوة بأن روسيا والصين خير من الغرب الاستعماري الذي يمتص خيرات الدول ويفرض الهيمنة ويمارس القهر من أجل فرض قيمه وأخلاقياته وكأن روسيا والصين لن تفعلا ذلك إن تمكنتا! وكأن روسيا والصين ستخدمان الدول بالمجان و"لله في لله"!

ربما تكون الحقيقة على غير ما يظنه البعض فالغرب بصفة عامة لديه أدواته وفيه بعض الجوانب الضاغطة على زعاماته والكابحة لها إن تجاوزت خطوطاً معينة وإن كانت الانتقائية في كثير من الأحيان سائدة بينما في غيره سياسة الحزب الحاكم والحاكم الأوحد هي المسيطرة ولا أحد يعترضه أو يصحح مساره.

واضح أنَّ هناك ميلا نحو عالم روسيا والصين، ولعل ذلك نابع من عدة أمور؛ منها: الرغبة في اكتشاف الجديد من العلاقات مع العوالم الأخرى فقد ترعرت أجيال ونشأت على ميزان علاقات مائلة نحو أمريكا والغرب وكذلك رغبة الشعوب في الخلاص من هيمنة الغرب على بلدانها وتدخله في الشؤون الداخلية وامتصاصه الثروات وكفران كثير من هذه الشعوب بأنظمة الغرب نتيجة ما تراه من تناقضات غربية وانفصال بين النظريات والتطبيق، إضافة إلى معاصرة هذه الشعوب لحروب كثيرة شنها الغرب على عدد من الدول واستخدم فيها العنف المفرط كالحرب على أفغانستان والعراق وحصار العراق وإيران، إضافة إلى أنَّ الغرب كان سبب نكبة فلسطين وتشريد شعبها مع الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل.

لعل هذا الميل نابع عن عاطفة وليس عن منطق وتأمل وتفكير وطبعًا أنا مع التخلص من كل سطوة أجنبية وتحرر من كل قبضة خارجية واستقلال ثقافي واقتصادي لبلدان العالم العربي والعالم بأسره عن القوى ولكن روسيا والصين لا تمثلان البراءة ولن تتحولا لجمعيات خيرية تعاونية؛ بل ولا يعرف عنهما مساهمات مجانية وقت اشتداد الأزمات والكوارث.

ثم إن الدعوة إلى استبدال العلاقات والتحالفات مع روسيا والصين بدل أمريكا والغرب قد تكون في غير محلها وفي محلها لو كانت الدعوة لتوثيق العلاقات مع كافة القوى العالمية فقد تستفيد الدول العربية كوسيلة ضغط على الدول الغربية.

أما عن سبب عدم منطقية الميل الكامل للصين وروسيا فيكمن في أمور منها أن الغرب بما فيه أمريكا يتصدر المشهد السياسي والعسكري والتصنيع الحربي والثقافي وكذلك فإن للغرب قوى مؤيدة له ونخب كثيرة في الدول العربية بخلاف روسيا والصين فإنهما ليس لهما أقدام راسخة من النخب في الدول العربية.

حاول رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان تقوية تحالفه مع روسيا ولكن النتيجة تحريك أمريكا قواها المُؤيدة لها في الداخل فتم إسقاطه أي لم تتمكن روسيا من حمايته لأنها ليس لديها قوى ولا نخب داخلية.

أمريكا ودول الغرب لهم مؤيدون من المثقفين الذين نهلوا من علوم الغرب وعاشوا فيه سنوات وتشبعوا بفكره بينما لم يتشبع بثقافة روسيا والصين في العالم العربي إلا القليل. وكثير من أساتذة الجامعات في العالم العربي ثقافتهم غربية بل قادة الجيوش في دول العالم الثالث ثقافتهم أمريكية بريطانية فرنسية وهذا ما لا يتوفر لروسيا والصين ولذلك هاتان الدولتان لا تتمكنان من حماية الزعامات التي تميل إليهما ميلا مطلقا.

أمريكا والغرب ملاذٌ للحريات بغض النظر عن الازدواجية والانتقائية إلا أننا لن نجد أحدا يزعم أن روسيا والصين ملاذ ومتنفس للحريات.

الخلاصة لا يمكن للزعامات في عالمنا العربي أو الإسلامي تطليق العلاقات مع الغرب والتحالف مع روسيا والصين؛ لافتقار الدولتين لقوى ناعمة داخل البلدان ولإمكانية تحريك الغرب قواه الفاعلة داخل البلدان في الجيوش والجامعات ومراكز صنع القرار.

لم تزل أمريكا والغرب متسيدين في العالم بخلاف الصين وروسيا فكم الذين ينطقون باللغتين في عالمنا؟ وكم أعداد المبتعثين من الطلاب وأصحاب الدورات من البلدان العربية إليهما؟ وكم للدولتين من تأثير وتغلغل في مراكز صنع القرار؟

أمريكا والغرب لا يحتاجان لتحريك أساطيل بل يحركان الداخل فقط أما الصين وروسيا فإنهما يفتقدان ذلك ولذا فإن من يُعلن صراحة تحالفه معهما متحديا الغرب يسقط ولا تملك الدولتان حمايته.

طبعًا جميع تلك القوى تعمل لصالحها وتبتز المفتقر إليها ولا سبيل للتخلص من تلك الهيمنة إلا باعتماد برامج وطنية في مختلف الجوانب وتعميق الهوية الوطنية للبلدان وتثقيف الناشئة ثقافة وطنية قبل ابتعاثهم لدول شرقية أو غربية، كما إن تعريب العلوم وسيلة من وسائل تقوية الانتماء الوطني.

إن الدول الكبرى ليست جمعيات للأعمال الخيرية، وإنما لديها خطط بسط النفوذ ورسم سياسات إخضاع الدول المفتقرة إليها، ومن التحليلات غير المنطقية الاعتقاد بأنَّ روسيا والصين خير من أمريكا والغرب، لكن من السياسة الاعتدال في المواقف بين قوى الشرق والغرب، ومن المنطق عدم الركون في العتاد العسكري على دولة واحدة وبذلك تصير الدولة الصغيرة هي الضاغطة على الدولة الكبيرة.