هندسة المجتمع

 

د. سلطان بن خميس الخروصي

sultankamis@gmail.com

تمثل هندسة المجتمعات أحد أبرز التحديات التي تواجه الأمم في العصر الحديث؛ نظرًا لكثرة المتغيرات المحيطة وما تفرزه مسارات العولمة المختلفة. والمجتمع العُماني أحد أهم المكونات الدولية الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والأمنية والاقتصادية.

ومن يسبر أغوار تاريخ هذا البلد يجده متآلفا حول عشيرته ورئيسها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها وصولاً إلى الذَّود عن حياضها وكرامتها وإن كلفه ذلك حياته، إلا أن الفلسفة المجتمعية نحو القيم والالتفاف حول الهوية الوطنية على مر العصور هي ديناميكية وليست ثابتة، إذ إن جيلَ مازن بن غضوبة، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وراشد بن عُميرة، والإمام نور الدين السالمي وغيرهم من الشخصيات العُمانية الوطنية الجليلة قد لا يكون محل اهتمام وتقدير من جيلنا الحالي، وما تقدمه مؤسسات الدولة من تعزيز للثقافة والعمارة العُمانية الإسلامية الشامخة كالقلاع، والحصون، ومداخل المحافظات والولايات، والأسواق وغيرها قد لا يرقى لذائقة جيل منفتح على الحداثة، وما تسعى له مؤسسات التنشئة المجتمعية في غرس القيم السويَّة التي تحتفظ بالخصوصية العُمانية عبر المناهج الدراسية، وخطب الجمعة، والملتقيات والندوات والفعاليات التي اعتدنا عليها قد لا تلقى رواجًا واستحسانًا للقاعدة الشابة والناشئة في الهرم السكاني المنشور في مناهج الدراسات الاجتماعية أو المؤشرات الديموغرافية التي تبثها وزارة التنمية الاجتماعية أو المركز الوطني للإحصاء والمعلومات.

لا يمكن لصاحب بصيرة أن يُغطِّي شمس الجهود السامية التي تقوم بها مؤسسات الدولة بغربال منذ إنشاء عُمان الحديثة في عهد المغفور له السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- واستمرار هذا النهج السامي من لدن عاهل البلاد المفدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه. فمن يتتبع ويتفحّص الخطابات السامية والتوجيهات السديدة، يستشعر الفلسفة السياسية السلسة في رسم خارطة المجتمع الناضج، ويتلمّس آلية هندسة المجتمع القويمة انطلاقاً من القاعدة المتينة التي بُنيت عليها رؤية" عُمان 2040"؛ حيث الإنسان العُماني كأحد أهم تلك الأولويات على الإطلاق، إلّا أنَّنا بحاجة ماسة لإعادة البوصلة لمسارها الصحيح، وتقييم وتقويم هذه الخارطة لتصل المركبة إلى مبتغاها المنشود بكل أمان وسلام كما رُسم لها؛ فالتكنولوجيا أمر حتمي يفرض نفسه على الأجيال الحالية بكل ما يحويه العالم من تباين المجتمعات الأخرى، من حيث الثقافة والأعراق والأجناس والأديان فلابد للجهات المعنية من الأخذ بعين الاعتبار، كيف يمكنها أن تُكيّف الواقع الحقيقي لغرس هويتها الوطنية بصورة حديثة وعصرية يتقبلها الجيل الحالي الذي أدمن الفيسبوك وتويتر والانستجرام والتوك توك والسناب شات وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، كما إن التشبث بالمشهورين في تلك المواقع أصبح أكثر وقعًا وتمسكًا من القدوات التي تضرب عروقها في التاريخ العُماني في مختلف المجالات، علاوة على أن اندماج الثقافات أضحى واقعًا مُلامسًا ومُشاهَدًا، فلا يجوز التنصُّل عن ذلك؛ بل يتطلب هندسة المسارات الواضحة التي تمزج بين الحداثة والمعاصرة لتلامس ذائقة هذه الشريحة وتستحسنها قلوبهم وأفكارهم بعيدا عن التمجيد بالتراث والتاريخ الذي قد يقطع همزة الوصل بين الأجيال إن زاد الأمر عن حده.

إنَّ هندسة المجتمعات أمر ليس بالهين، فهي توازي الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في أي أمَّة، والأخذ بجميع مكونات المنظومة المجتمعية أساس نجاح تلك الهندسة، والابتعاد عن استصغار العقول الناشئة ومخرجات العولمة المهولة أحد أبرز القواعد التي يمكن لمؤسسات التنشئة المجتمعية في السلطنة أن تنطلق منها في سبيل الحفاظ على الهوية والقيم العُمانية الممزوجة بالإبداع والتميز والابتكار، انطلاقًا من الفلسفة السياسية السامية الواضحة، والهروب من الواقع الحداثي المتسارع إعلاميًا وفكريًا واقتصاديًا وعمرانيًا وغيرها ليس هو الحل الأمثل، علينا أن نضع النقاط على الحروف، وأن نرجع للمربع الأول لنستكمل انطلاقة بناء مجتمع عصري رصين في تعليمه وابتكاراته وتربيته وأفكاره وتطوير بلده العظيم.