فلسفة الأسماء

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

عندما خلق الله سيدنا آدم عليه السلام كان أول ما أنعم به عليه هو تسميته بآدم وأعظم عليه كرمه بأن علمه الأسماء كلها؛ حيث لا يُمكن للإنسان اكتساب قدرة تحليل المفهوم إلا بعد وضع ترميزٍ مكتملٍ دقيقٍ ومُتفقٌ عليه.

وتدل لفظة "علَّم" على التدرج في تلقي العلم على فترةٍ ومراحل، كما تحتمل الصيغة أن يكون دفعة واحدة بالإلهام أو حتى بطرق وكيفيات لا تطالها الأفهام، فصار عليمًا متحدثًا وعضل ذلك بالملائكة الكرام، واستمر الإنسان على نفس النهج منذ حينهِ، فالطفل مع بدايات نطقه وأسلوب التلقين يطلق الأسماء على المحسوسات كنوعٍ من التعريف العام للمضمون وليس فروعه بحسب ماسمع من تكرار وشاهد من خصائص واختبر من نتائج فيقول: باب بعد أن علِم أنه منفذ للدخول والخروج ولا يهتم كثيرًا لاسم قبضة الباب مع علمه بأهميتها ولن يسمي الباب بمقبض فتحه وغلقه كونها جزءٌ صغيرٌ من أصل كبير وهكذا لغات الشعوب، فما هي إلا أسماءٌ لمشخصاتٍ مجسدةٍ أو مجرداتٍ حسية وذهنية وتداعيات بين دالٍ ومدلول.

الواقع يسبق الأسماء والشيء بلا اسم لا وجود له في الذهن وإن كان واقعًا، وهنا تتدخل السُلطة الإنسانية لتضفي عليه اسمًا معرفًا وعلمًا معينًا، فسُلطة الأب والأم مثلًا تخولهم اتخاذ القرار في أسماء أبنائهم والتي تُعجب البعض وربما لا تعجب البعض الآخر، وسُلطة المجتمع في تسمية المكان وسلطة الدولة في تسمية المنطقة والبلد ولا غرابة أن يحظى القادر على إطلاق الاسم بنوع من السُلطة فيبسطها في حدود صلاحيته ونفوذه.

قد تكون سُلطة الأهل على تسمية أبنائهم مباشرةٌ لا تسبقها مقدمات تدريجية كثيرة، كذلك الدولة في إطلاق الأسماء على المناطق والمعالم بحسب الأهمية لناحية التعريف والتقسيم الإداري وتغييرها أحيانًا لخللٍ معنوي فيها أو لتعارضها مع الفهم القويم وبمرور الوقت يعتادها السكان؛ وقد غير الرسول صلى الله عليه وسلم اسم يثرب إلى المدينة المنورة، وسمى محمد الثاني (الفاتح) مدينة إسلام بول بعد أن كانت بيزنطة والقسطنطينية، ومن الطبيعي أن تُعارض فئة ما ذلك الاسم المحدث على ماجرت عليه العادة ودرج على الألسن؛ حيث إن تسمية السكان لمنطقةٍ ومعلم أو قريةٍ وشارع جاء على فترات طويلة ربما لا يُعرف سببه أو نسبه ثم يطرأ عليه التحريف عمَّا كان عليه سابقًا لأسباب كثيرة أهمها النطق والتبسيط كمدينة سُر من رأى العراقية والمعروفة الآن بسامراء وحتى إسلام بول باتت تعرف اليوم بإسطنبول.

لم يضر بالتاريخ ورجالاته تغيير اسم مجان إلى عُمان والتي ارتبطت بعلاقات تجارية مع بلاد ما بين النهرين أو العراق حاليًا، ولنقس على ذلك الكثير من الحواضر؛ بل أصبح هناك ما يعرف بمراحل التغيير والتي سجلها التاريخ لاحقًا من خلال الأحداث العظيمة التي قام بها قطانها ونُسبوا في أسمائهم إلى بلدانهم ومساقط رؤوسهم.

فعندما أقول مدينة صلالة فإني أعني بالضرورة سلطنة عمان؛ كون صلالة فرعٌ صغير من أصل أكبر، وقد تستحدث فيها أسماء لمناطق وتتغير، وعندما أقول سلطنة عمان بإطلاقها فلا أقصد العالم، فالصغير يحمل اسم الكبير وليس العكس، حتى وإن تصدرت شخصيات مرموقة المشهد وعرفت في مرحلة وحقبة من التاريخ بعِظم تأثيرها فإن ذلك لا يسوغ اختزال منطقة بأسرها ومن فيها في شخوص هم جزءٌ يعود على كل، وكذلك لا تُنكر جهودهم ومواقفهم السابقة على أن تكون في قالبٍ متزنٍ لاينفي صفة الخيرية عن البقية فمنهم من علمنا بهم ومنهم من لم نعلم.

اختلاف الأهالي والسكان حول تسمية معلمٍ أو منطقة أمر شائع ويؤخذ برويةٍ وسكينةٍ وصولًا إلى الاتفاق وبلا شك سيكون مع المعالجات وتقريب وجهات النظر مُرضيًا للجميع، ولكن مع احتدام الخلاف الذي يراد به الانتصار للرأي وإثبات وجود فئة على أخرى بأنها الأكثر والأعمق تأثيرًا من خلال الدفع بالإثباتات التاريخية إلى حافة اليقين وتمركز الآخر في حصن الدحض الكفيل بدمغها وإثبات حجته الموثقة كذلك بالأدلة والبراهين، فلن ينجم عنه اتفاقٌ بالمطلق وسيبدأ المتصيدون بتعكير صفو المياه النقية، وستتدخل أخيرًا سلطة الدولة من الباب الواسع لبسط نفوذها، ويخرج المختلفون من الباب الضيق للمسرح بعد أن عرضوا اختلافهم على خشبته في مشاهدٍ حزينةٍ وساخرة حضرها القريب والغريب، ولن يقف التاريخ هنا شاهدًا جامدًا دون تسجيلها لتضيع هباءً من ذاكرته.

لن يحدث تفاهم حول موضوع الخلاف إذا كانت ثقافة التفاهم نفسها مشوبةٌ بسوء فهم، وعند إقرار الجميع بالأصول والثوابت فإن تغليب المصلحة العامة أحوط وأبدى من الاختلاف على الفروع والشكليات فالكل مع التشدد والتمسك بالرأي يخرج خاسرًا والكاسب في خلاف أهالي البلد الواحد لا يعتبر منتصرًا وأمرٌ لا مدعاة فيه للفخر.