بوصلة السياسة في السودان

 

هبة بت عريض

تحدد النظريات السياسية نوع الحكم السائد في الدول بين شمولي وفردي (دكتاتوري) وديمقراطي، ناهيك عن طبيعة الحكم بين جمهوري وملكي، وفي كل الأنواع هناك تفرعات وتوصيفات وربما نظريات وقوانين تدعم كل منها وتمنحها شرعية الدستور الذي فرضته على تلك الدولة ونظامها السياسي.

هنا لن نتطرق إلى تلك التفاصيل التي غدت من المفاهيم السائدة والمعروفة خاصة في وطننا (السودان) الذي أدمن الشعب فيه السياسة بعيدًا عن كونها مهنة كبقية المهن؛ حيث نجد الغالبية من الشعب ومن كل الشرائح مُنهمكين في الحديث والتحليل والتمحيص في قضايا السياسة. لذلك سنتعرض لمسألة من الأهمية بمكان، خاصة أننا نُعد من البلدان ذات التجارب الديمقراطية الحديثة التي يتم استنساخها على الطريقة الغربية بعيدًا عن واقع وظروف مجتمعاتنا التي تختلف في العديد من مظاهر الحياة وممارساتها وتراكم عاداتها وتقاليدها التي أصبحت جزءًا من شخصيتها كمجموعة وكفرد.

هذه المسألة تتعلق بالسلطة وكيفيتها بعيدًا عن نوعها؛ حيث السؤال الأهم في ماهية السلطة: هل هي هدف أم وسيلة لتطبيق برنامج يتعلق بالحاكمين؛ سواء كان فرديًا أو شموليًا أو ديمقراطيًا ومدى علاقته بالشعب واستحقاقاتهم المواطنية في الحقوق والواجبات؟ وإزاء ذلك هل يمكن أن يعترض البعض على كيفية التطبيق وحيثياته فيما يتعلق بالوطن والمواطن؟! هذا يقودنا إلى فكرة المعارضة الوطنية وتبلورها سواء على شكل أشخاص مستقلين أو أحزاب أو منظمات مجتمع مدني.

هذه المعارضة التي لم تتبلور بعد في كثير من البلدان حديثة التجربة الديمقراطية والمعني هنا السودان؛ حيث تم تقزيم مفهوم المواطنة وحصرها بالولاء للفرد الحاكم أو للحزب المتفرد وبذلك واجهت تلك الأنظمة الجديدة إرثًا متراكمًا من حب التسلط والانتقام بما يُغيب المواطنة المنتجة لمعارضة وطنية.

من المعلوم أن أولى دوافع ظهور المعارضة يكمن في حدوث التناقض بين الحاكمين والمحكومين، أو بين الفائزين بالسلطة وبين الخاسرين، مما يدفع مجموعات تتفق فيما بينها على منظومة عمل يطرح بدائل للمشروع الحكومي أو البرلماني يتضمن اتجاهات ومقترحات إصلاحية لما يظنونه هدمًا سياسيًا واجتماعيًا، وهكذا ممارسة تصطدم دائما بموروثات سياسية وقبلية أو اجتماعية لا تمتلك إرثا ولا منظومة تربوية في السلوك الديمقراطي الذي يعتمد أساسًا على قبول الآخر مهما كان مختلفًا في الرأي أو في الحجم.

وفن المعارضة وثقافتها يقوم في الأساس على فكرة المواطنة وقبول الآخر المختلف كما أسلفنا، وهي بالتالي ضرورة رقابية وتنافس من أجل الوطن وليس من أجل اقتسامه، وهي الأخرى تتصف بتعدد أشكالها ووسائلها ومكان تواجدها وأسلوبها في التعبير عنها؛ فمنها ما يُولد في المنفى وما يرتهن لإرادات دولية، كما إن منها ما هو أصيل ولا يخرج عن الثابت الوطني.. لكن ما شهده الواقع السوداني في صيفه السياسي الذي ارتدى قناعًا مُلونًا من معارضات كان وما يزال يراوح بين ما هو راديكالي بطرح شعارات تعجيزية، وما هو واقعي وقابل لأن يترجم ميدانيًا، والفيصل في الحالتين هو الدور الخارجي في تغذية المعارضة الحالمة بالسلطة حتى لو كان ذلك نهاية جميع السودانيين.

المُتابع للواقع السياسي السوداني يُلاحظ بوضوح مدى تأثير العامل الخارجي الذي يُهيمن على اتجاهات البوصلة السياسية سواء كانت في السلطة أو ما يسمى بالمعترضين عليها الذين يصرون هم أيضا على اعتلاء كراسي السلطة بأي ثمن كان، ولذلك ستبقى فكرة المعارضة مجرد حديث نظري لا يُمكن تطبيقه واقعا لأنَّ ثقافة المواطنة ما تزال تتأرجح بين الانتماء للوطن والولاء الجزئي، وفي كلتا الحالتين تبقى السلطة متفردة حتى فيما يسمى بالديمقراطية ما لم تتطور وترتقي ثقافة المواطنة والولاء الوطني الجامع المشترك للجميع.

سيحدثونك يا بُنيَّ عن السلام

إياك أن تصغي إلى هذا الكلام

كالطفل يخدع بالمنى حتى ينام

لا سِلمَ أو يجلو عن الوجه الرغام

صدقتهم يومًا فآوتني الخيام

تعليق عبر الفيس بوك