وأزهرت

 

هند الحمدانية

وها هو أكتوبر المرأة العُمانية يفتح أبوابه لكل امرأة تنتمي لهذه الأرض، محتفيًا بنساء عمان الملهمات، ومسلطًا الضوء على بطولاتهن التي ألهمت العالم أجمع من كل الوطن العربي وامتدادًا إلى كندا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا، إنجاز ٌحقيقيٌ وصادق لم تألفه مسامع العالم ولم تستوعبه المنصات الإعلامية المختلفة لأنه لم يُصنع ليبهر العالم، بل صُنِع من أجل الله وإخلاصًا لوجهه ثم وفاءً للوطن.

حكايتنا في هذا المقال عن سيدة عمانية عظيمة، حملت على عاتقها مسؤولية القضاء على الأمية في قريتها الصغيرة، ومن تلك القرية شقت الطريق نحو القرى المجاورة والمناطق الجبلية البعيدة.

إنها زهرة العوفية تلك المرأة التي قررت أن تزهر فعلاً من تربة بيتها الخصبة وتحت ضوء شمسها المباشر، تعلمت ذاتيًا كيف تستبدل الأجزاء الباهتة من زهرة لتؤمن نموًا سليمًا لبقية الأجيال القادمة.

من ولاية الحمراء كانت بداية زهرة، بعد أن قررت أن تستثمر وقت فراغها بتحفيظ أبناء قريتها الصغار القرآن الكريم في بيتها الصغير، ومكافأتهم بين الحين والآخر من مصروف بيتها الذي اقتطعته في هذا السبيل، بدأت القرى المجاورة بإرسال أبنائها لزهرة وتضخمت الأعداد التي كانت تتوافد عليها، كانت زهرة أيضا تزور إحدى مدارس الولاية لتعلم العاملات في المدرسة القرآن الكريم، فاقترحت عليها مديرة المدرسة تحفيظ الطلبة القرآن الكريم في وقت فراغهم، فبدأت فعلياً في تحفيظ القرآن في وقت فراغ الحصص، وهنا اكتشفت زهرة عددا من طلاب المناطق الجبلية منطوين على أنفسهم ولا يشاركون بقية زملائهم الحوارات ولا يفقهون شيئا عن الدين أو الصلاة، ومن هنا كانت الشرارة التي أشعلت الرغبة الصادقة عند زهرة في أخذ زمام المبادرة والقيام بما يلزم والأخذ بيد أطفال القرى الجبلية وزيارة أهاليهم.

وبعد أول زيارة لأبعد قرية جبلية اكتشفت أن أمهات هؤلاء الأطفال يعشن في جهل دامس حيث لم تكن لديهن أساسيات الدين من فقه الصلاة والصوم وقراءة القرآن، كانت المسافة بعيدة جدا إلى تلك القرى النائية وكان الطريق وعرًا وغير ممهد، لكن زهرة آثرت على نفسها التعب والمشقة في سبيل نشر نور العلم وتنوير هؤلاء الأهالي، فافتتحت أول مدرسة في تلك الجبال وكان الأمر مجهدا فعلا لأن أعداد المنتسبين من الأطفال الصغار وربات البيوت بدأت تتزايد، فكان على زهرة أن تخرج خارج دائرة تفكيرها المحدودة وأن تدفع عقلها إلى ابتكار حلولٍ جديدة من شأنها أن تضمن استمرارية وتطور ما بدأته.

ما أثار إعجابي فعلًا هي الإستراتيجية الذكية التي عملت من خلالها زهرة، والتي تمثلت في أكثر من جانب، أولها الجانب المادي فكرت أولا بمصدر جديد للدعم المالي فهي مستقلة ومتعففة لا تهدف إلى استعطاف أي جهة خيرية لدعمها ماديا بل فكرت أن تدعم نفسها بجهدها، فبدأت في الطبخ والتسويق لتلك الأكلات المتنوعة التي كانت تطهوها بحب وإخلاص، فتوسعت كثيرا وأصبحت تملك دخلا ماديا يعينها لمواصلة طموحاتها في القضاء على الأمية، ثم عززت استراتيجية التفويض عندما رأت الأعداد تتزايد والمدرسة أصبحت مدارس فقررت أن تفوض الفتيات المتعلمات في تدريس الأهالي مقابل مكافآت شهرية، وفعلاً بدأ مشروع زهرة لمحو الأمية في التوسع حتى استطاعت أن تفتتح 22 مدرسة تعليمية جبلية، وهنا كانت الإستراتيجية الثالثة وهي الإصرار على التوسع وعدم التوقف والنمو المتواصل الذي شهدناه من تعليم الأطفال في بيتها الصغير ثم في مدرسة الولاية ثم إنشاء 22 مدرسة جبلية ومازالت طموحاتها مستمرة.

كيف لربة بيت بسيطة وبمؤهل تعليمي لم يتجاوز شهادة الصف الخامس الابتدائي أن تُحدث هذا التغيير الجذري الكبير في مجتمعها وفي عشرات البيوت ولمئات النساء؟! إنها النية! النية هي المحرك الخفي لهذا الإنجاز العظيم، أجل نية زهرة وإيمانها القوي الذي مهد الجبال الصخرية وفتح طرقاتها الوعرة أمام أحلام زهرة وهيأ عقلها لابتكار أفكار مستجدة على مجتمعها لجني المال وتفعيل القدرات المعطلة وخلق بيئة شغوفة وملهمة للعطاء.

كُرِمَت زهرة العوفية على مستوى الوطن العربي ضمن جائزة أفضل عشر شخصيات نسائية رائدة ومؤثرة في الوطن العربي عام 2017، ثم كُرِمَت بجائزة السلطان قابوس للأعمال التطوعية في ديسمبر لنفس العام،  ثم حصلت في العام الذي يليه على المركز الأول عربيا في مجال التميز في أفضل المشاريع التطوعية بالوطن العربي، ثم كرمت في بروكسل عاصمة بلجيكا، وفي عام 2020 كرمت وبترشيح من اليونسكو عن جائزة تحدي الأمية في دورتها الثانية بمدينة دبي، كما حظيت بوسام الإشادة السلطانية من الدرجة الثالثة من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- وسلمتها السيدة الجليلة هذا الوسام في يوم المرأة العمانية 17 أكتوبر 2020.

إذا أحب الله عبدًا في الأرض دعا جبريل وملائكته ليحبوه، فيحبه جميع أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض والمحبة في قلوب الناس، وزهرة هي ذلك العبد البسيط الذي حظي بالمحبة والقبول من مشارق الأرض ومغاربها، وكما قالت زهرة عندما سألها مذيع في إحدى القنوات التلفزيونية : ما الذي تنتظره زهرة في نهاية مشوار عطائها التطوعي، فأجابته: إنني أطمح فقط أن أرى دفعة من أبنائي الصغار الذين تعلموا على يدي، أراهم وهم خريجين من الجامعات معلمين أو مهندسين أو أطباء ...، ثم أموت وألقى الله لأخبره فيما أفنيتُ حياتي وكيف استثمرتُ عمري وأخبره أنني كنت أحلم بأن أكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس".

تعليق عبر الفيس بوك