جابر حسين العماني
مهما بحث الباحثون وتأمل المتأملون في أوضاع دول العالم، فلن يجدوا بلدًا يخلو من الفقراء والمتسولين والمحتاجين لأبسط مقومات الحياة الكريمة التي يحتاج إليها الإنسان في أسرته ومجتمعه، ولو ذهبنا اليوم إلى أغنى البلدان العربية والإسلامية والأجنبية لوجدنا الفقراء هناك كما في أي مكان، ولكن الأمر يتفاوت من بلد إلى بلد ومن مجتمع لآخر، فهناك من البلاد التي فيها نسبة كبيرة من الفقراء، وهناك من نسبتهم أقل بكثير، وحتى لو زرت أكثر البلدان تقدما من حيث أفضل القوانين العصرية فيها فإنك ستكتشف أن الفقر والفقراء يتواجدون بمختلف مستوياتهم المعيشية.
والمتأمل قليلاً في تاريخ الحضارة الإسلامية يجد أنها كانت وما زالت تسعى دائما لرفع مستوى الفرد في المجتمع؛ بل وجعل المواطن يعيش حياة كريمة تحت ظل الدولة، بعيدًا عن الفقر والتسول والإذلال، وذلك من خلال التشجيع والحث على احترام المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي كانت ولا زالت تهتم بسعادة الإنسان، والعمل الجاد والمستمر على تحقيق الأمن والأمان، والاقتصاد السليم، والسياسة الحكيمة، وصناعة المجتمع النظيف والخالي من الشوائب الفكرية والمسمومة، والسعي الدائم لتحقيق الرفاهية للمواطن.
وإذا نظرنا إلى عهد خليفة المسلمين الإمام العادل علي بن أبي طالب، والذي استمر لأربع سنوات وبضعة أشهر، نلاحظ بوضوح تام أنه كان يهتم برعيته؛ بل كان يسعى دائمًا إلى رفع دخل الفرد في المجتمع وتأمين الحياة الاجتماعية لرعيته، والهدف من ذلك هو إشعار المواطنين في ظل الدولة الإسلامية بالعزة والكرامة والرضا، فما أجمل أن يكون المسؤول على الناس مهتما بإزالة همومهم، ورفع معاناتهم، وتلبية احتياجاتهم، وحفظ حقوقهم من الضياع، صائنا لأمنهم وسلامتهم، ومقيما العدل بينهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة النساء: آية 58].
إن ما تشهده البلاد الإسلامية اليوم من تفاقم مشكلة الفقر وانتشار المتسولين والباحثين عن العمل يجعلنا أمام مشكلة كبيرة ينبغي حلها، وهذا لا يكون إلا من خلال سن التشريعات والقوانين من قبل الدولة نفسها، والتفاعل معها من قبل الجميع.
ومن أجل حماية المجتمع من الفقر وانتشار حالات التسول لا بُد من التركيز على نقاط هامة، وهي من واجبات الدولة أولا، من خلال قوانينها ومنهجيتها، ومن ثم وثانيًا من واجبات الناس أيضا، والكل تحت مظلة الدولة مسؤول عن تحقيق ذلك.
وهنا أشير إلى بعض النقاط، وهي:
أولًا: ترشيد الإنفاق في الدولة، وهو من أهم أولويات الإمام علي بن أبي طالب، وهو من أفضل وأجمل النماذج في حفظ الاقتصاد وقتل الفقر والتخلص منه، وكما قال الإمام علي: "الفقر الموت الأَكبر" وقال: "والقبر خير من الفقر"، فما أجمل أن نسير على هدي خليفة المسلمين العادل.
ثانيًا: الاهتمام بالتكافل الاجتماعي وتشجيعه في المجتمع، بمعنى التزام أفراد المجتمع وتضامنهم جميعاً لمساعدة المحتاجين من الفقراء والمساكين، وهو نفسه ما أوصى به وحث عليه نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فما أجمل الإنسان عندما يفرح لفرح الفقراء ويحزن لحزنهم، بل ويسعى جاهدا لرفع معاناتهم.
ثالثًا: تفعيل الضمان الاجتماعي في الواقع الحياتي للناس، وهو من أهم التشريعات التي شرعها واهتم بتفعيلها أيضاً الإمام علي بن أبي طالب في الدولة الإسلامية آنذاك، وهو القائل لقائد جيشه مالك الأشتر- كما جاء في كتاب نهج البلاغة- "ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ، والْمَسَاكِينِ وَالمحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعًا وَمُعْتَرًّا، وَاحْفَظْ لِلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْمًا مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْمًا مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلأقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأدْنَى).
رابعًا: الاهتمام بتطبيق النزاهة وتقوى الله تعالى في كل مؤسسات الدولة المختلفة والمتنوعة، سواء كان ذلك في الوزارات أو المؤسسات الحكومية أو القطاعات الخاصة وغيرها، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر: آية 18].
خامسًا: مُحاربة الفساد المالي والأخلاقي في الدولة أيًا كانت مسمياته وأشكاله، والمعاقبة عليه، والأهم من كل ذلك عزل الفاسدين من مناصبهم والاعتماد على المخلصين والأوفياء من أبناء الوطن.
سادسًا: تخفيض الضرائب على المواطن؛ فزيادتها في حد ذاته تُرهق صغار المستثمرين، وتزيد من نسبة الفقر.
وأخيرًا.. إنَّ من الواجب على الجميع العمل على احترام القانون والقيم البشرية في حفظ الفقراء، وانتشالهم من محنتهم ومُعاناتهم، بل وتغيير حياتهم لحياة كريمة وهانئة، وذلك لا يكون إلا إذا تحركت المؤسسات لرفع مستوى الفرد في المجتمع.