ناصر أبو عون
ثمانية وأربعون (فلجًا)؛ يتصدرها (فلج بوسمان) و(النجّار)؛ وتتحدّر من قراب الغيم (ماء طهورا)؛ يتدفق من كفّ الله واهب الحياة ويسّاقط من مزون الحكمة على رؤوس الجبال، موائدَ خير، ساريًا في شقوق الطين (فأحيا به الأرض بعد موتها)، وناثرًا الخضارَ بساتينَ وحدائق غناء في موطن النصر والفخار في تلك البقعة المباركة التي مازالت تضيء ركنا قصيًا من ذاكرة التاريخ العمانيّ المجيد، حيث تَشَكّلَ وجودها في مخطوط الجغرافيا السياسيّة مع انبلاج فجر الألف الثاني قبل الميلاد.
هنا (بوشر).. عندما تضع أصبعك على الخارطة ستتبدى لك وهي تطل من عليائها، وشمال كبريائها المضمخ بالانتصارات على (بحر عُمان)، ومن زاوية أخرى تتراءى أمام ناظريك وهي تسند ظهرها المنتصب فخرا وخيلاءً من ناحية الجنوب إلى جبال عُمان الراسيات التي نفضت عن أكتافها جحافل الطامعين والغزاة، ودحرت عسكر (الحجاج بن يوسف الثقفي) في معركة (البلقعين) على يد الأزديين الأشاوس.
ومن منظور الجغرافيا الإنسانية سترى (بوشر) بقلبك متكئةً على أكتاف (مطرح) من ناحية الشرق؛ بحنو الأخوّة ورحم القرابة في النضال والمقاومة والتشاركية في دحر الغاصبين البرتغاليين من آخر معاقلهم في معركة كبرى بالقرب من مسجد (الخور والشهداء)، ومن جهة الغرب تتجاور مع ولاية (السيب) الشهيرة تاريخيا باسم (دما) ذاك الثغر الإسلاميّ البحري ورباط المسلمين في عُمان ما بين (177هـ – 280هـ)، ومعقل الأسطول البحري الأول في عهد الإمام غسان بن عبد الله (192هـ -207هـ). وكثير من الشعراء القدامى والمعاصرين تغنوا بمناخ (بوشر) وملاعب الصبا فيها ومما قاله فيها (الشيخ محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن سعيد بن خلفان بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عامر الخليلي):
[هل أتاكم من صوب (بوشر) نفح
ينشر الحبّ بالندى ويسح
|||
هل أتاكم برد النسيم رسولا
فيه من نخلها البواسق لمح
|||
مرَّ كالطيف بالأحبة لطفاً
يرسم الوصل في الخيال ويمحو]
وفي كثير من الوثائق التي وردت فيها قرية (بوشر) يتردد اسم (سيبا المال)؛ أمَّا عن دلالة اسم (سيبا المال) ومعانيه فقد أجمعت مفهرسات (القاموس المحيط والوسيط، ولسان العرب) على أنّ (السَّيْبُ: الْعَطَاءُ، وَالْعُرْفُ، وَالنَّافِلَةُ. وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ: وَاجْعَلْهُ سَيْبًا نَافِعًا. أَيْ: عَطَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَطَرًا سَائِبًا أَيْ جَارِيًا. وَالسُّيُوبُ: الرِّكَازُ، لِأَنَّهَا مِنْ سَيْبِ اللَّهِ وَعَطَائِهِ)؛ وَفِي كتابه لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: وَفِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ؛ قَاْلَ أَبُو عُبَيْدٍ: السُّيُوبُ الرِّكَازُ؛ قَالَ: وَلَا أُرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ؛ وَأَنْشَدَ:
[فَمَا أَنَّا مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ بِجُبَّأٍ
وَمَا أَنَّا مِنْ سَيْبِ الْإِلَهِ بِآيِسِ]
و(سيبا المال) اسم مكان ومعلمٌ ثرٌّ بالأحداث التاريخية، والمطارحات العلمية، وفي كثير من (المخطوطات العمانية المكنوزة في الأراشيف العائلية، وهيئة المحفوظات والمجموعات الخاصة للعديد من المحققين) جاء مقترنا باسم العديد من (أعلام الطائيين الأوائل) نذكر منهم: (الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي وأبناءه وأحفاده من بعده)، وهو مَعين نبوغٍ لم ينضب عطاؤه حتى اليوم، وخزانةُ مكتنزة بأصول فقه القضاء مشرعة الأبواب لا تُوصد، واستضوأ أنوار علمه من مشكاة السابقين الأولين وأروى قلبه مصاصة اجتهادهم في أركان الدين، واستنور فكره بأنوار الأقطاب الأماجد النابهين. وقد حطّ فيها رحاله قادما من (سمائل الفيحاء)، وعاش فيها ردحاً من الزمن.
وخَلَفَ (الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي) من بعده ولدُه (الشيخ القاضي عيسى بن صالح) وقد أَشْرَبَ روحه الحَييّة من بحر الأحكام الشرعية للشيوخ والأقطاب الإباضية، فاستبصر على أيديهم فنون الأحكام وعلوم السياسة والدهاء، وتمثّل بهم في قضايا الشريعة والإفتاء؛ فجمع في شخصيته بين الفقه والشعر وعلم القضاء، واستوقد ذُبالة المجاهدة من جذوة الانتصارات العُمانية في ذبِّ الأجنبيّ وطرده فاستعرت روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء، فكان جديرا بأن يكون الساعد الأيمن لكبار القضاة والفقهاء، فعلا في العلم نجمه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، وصار مساعدًا للقضاة بمحكمة مسقط، ثم اعتلى منصة القضاء في ولاية مطرح، وانتهى به المآل أنْ نصّبه السلطان (سعيد بن تيمور) (قاضيا للقضاة)، وأنعم عليه بالعطايا؛ فأهداه مزرعة (سيبا المال)، و(بيت الفوق) والذي صار – فيما بعد - (سبلة علمية) يرتادها العلماء والمتعلمون من كل حدب وصوب، فدانت له الدنيا واستقرّت به الحال، وأعقّبت له عقيلته الفاضلة (خديجة) بنت العلامة (سعيد بن ناصر الكندي) ثلاثة أولاد هم (حمود وهاشم وصالح)، ووهبه الله (حمد)، و(رُقية) من قرينته [ثريا الطائية]، وذراريهم الذين ملأوا الدنيا علماً ونوراً، ولفّت سيرتهم الحسنة الآفاق.
فها هو الشيخ الشاعر صالح بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1932م – 1990م) يتغنى بـ(سيبا المال) و(بوشر) في مواضع كثيرة من شعره؛ ومما قاله فيها:
[ذكرتني عهد الطفولة (بوشرا)
أيامه مرت كأحلام الكرى
|||
وبحي (سيبا) كان مرتع أنسهم
نالت بهم شرفا وعزا أوفرا]
وشاءت الأقدار أن يُورّث (الشيخ القاضي عيسى بن صالح بن عامر الطائي) ابنه (هاشمًا) علوم الفقه والقضاء وفنون الأدب شعره ونثره ؛ فصار علمًا من أعلام زمانه، وجلس موضع أبيه في (سبلة الفوق) في (سيبا المال) وكانت في هذا الزمان بمثابة مدرسة علمية وفقهية، وحلقة علم يومية؛ لا تنفض مجالسها، ولا تخبو أضواء معارفها، ولا تنقطع أحاديث أعلامها، ولا تجف أمواه فقهائها تحت ظل شجرة (الشريشة) وارفة الظلال تؤتي أكلها من فنون العلوم والآداب كل حين بإذن ربّها بصحبة المشايخ الأجلاء (إبراهيم بن سعيد العبري المفتي الأول في عُمان، وسماحة الشيخ حمد بن حمد الخليلي المفتي الثاني، والقاضي خالد بن مهنا البطاشي، والشيخ سعيد بن حمد الحارثي.. وآخرون).