ناصر أبو عون
في الطريق إلى مسجد الخور تأبّطتُ خيرًا؛ ذاك الذي أتفاءلُ باسمه الجامع بين (الحمد والرضا)، وأقرأ وِرْدَ الرضا الإلهيّ في محيّاه الذي لا تفارقه نضارة الإيمان، وأقطف ما شاء لي من حديقة روحه الغنّاء ابتساماتٍ يانعةً غضّة يقدُّها من بشاشة نفسّه الأمّارة بالحبّ ليوزّعها صدقاتٍ على من عرف ومن لم يعرف... انطلق بي الصديق محمد بن رضا اللواتي إلى داخل (سور مسقط)؛ حيث يقع (مسجد الخوار) فرأيناه ينظر بامتنان إلى (قصر العلم) جنوبًا، ويتعالى بفخار على(قلعة الميراني) شرقًا، ويحضن بدفء(باب المثاعيب) شمالًا، ويربت على كتف(بيت الجزيرة) غربًا.
داخل صحن المسجد عادت بنا الذاكرة أربعة قرون ونصف القرن، تلك الأيام التي جثم فيها البرتغاليون على سواحل الهند وأفريقيا وشبه الجزيرة العربية يعيثون فيها فسادا؛ ما بين نهب لثرواتها، واستكراه واستعباد لأهل البلاد، ومساومتهم على دينهم بدنياهم تحت وطأة "البعثات التبشيرية" التي جاءت على ظهور سفنهم لا يألون جهدا في سعيها الدؤوب لنشر المسيحية كهدف ثانٍ لحملاتهم الاستعمارية بعد نجاحهم في السيطرة على طرق التجارة العالمية.
"حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"، وعمّ البلاء، أنزل الله صَيِّبا من السماء؛ فأنبتت الأرض (رجالا) سيوفا منتصبات في بطون الأودية، ورماحًا بارقات في السهول الجارية، ودروعًا مشعّات بأضواء الحريّة على رؤوس الجبال الراسية، (صدقوا ما عاهدوا الله عليه)؛ وَهَبُوا أرواحهم رخيصة لنصرة دينه، وتطهير ديارهم من أدناس المستعمرين، وأرجاس المتخاذلين؛ (فمنهم من قضى نحبه)، ولنا فيهم قدوة، فهذا الإمام ناصر بن مرشد الذي انتضى سيفه، وتقلّد ترسه، وتكفن بدرعه وحمل على البرتغاليين في أربعينيات القرن 17 الميلادي (الحادي عشر الهجري) فكشط بشفرة إيمانه حامياتهم المدججة في (جلفار)، و(صور) و(صحار)؛ فلما أيقن البرتغاليون أنّ الله بسط الأرض تحت أقدام الجيوش العُمانيّة مهادا، طأطأوا رؤوسهم مدحورين، ودفعوا الجزية صاغرين.
ولكن ظلت (مسقط ومطرح) أشبه بسجن مفتوح للقائد البرتغالي (دوم جولياو نورونا) وعسكره يأكل السأم صدورهم، ويكاد البرق العُماني الزاحف تحت راية الإمام سيف بن سلطان يخطف الهناءة والراحة من أحلامهم، فلمّا دكّ أسوارهم الحصينة، ونثر الرعب على رؤوس أجنادهم سنة 1648م، خضعوا وطلبوا الهدنة ودفع الجزية للأشاوس اليعاربة العُمانيين.
ولأنّ الإمام سيف بن سلطان اليعربي الملقّب بـ"قيد الأرض" من نطفة رجال لا يقبلون الدنيّة في دينهم، وتأبى نفوسهم الخنوع والممالئة، يقوده يقين ثابت لا يتزحزح قيد أنملة، وتسكنه عقيدة راسخة وحوله رجال أشاوس (يعلمون أنه الحق من ربهم)، وأن (الله محيط بالكافرين) البرتغاليين الذين تمترسوا داخل أسوار (الجلالي والميراني)؛ فحملوا عليهم في معركة عظيمة عام 1650م وهم لاهون في احتفالات (عيد الفصح)، ودارت معركة حامية الوطيس، وأسَرُوا من عسكرهم 700 بحّار، وقتلوا منهم ما شاء الله لهم.
فلما انقشع غبار المعركة وأذعن المستعمرون، وطأطأوا رؤوسهم تحت ظلال السيوف العُمانية خرج المجاهدون الأشاوس يطبّبون جرحاهم ويداوون مرضاهم، ويحصون شهداءهم؛ فعدّوا خمسة عشر شهيدا (أحياء عند ربهم يُرزقون) مازالت أجنحتهم إلى قيام الساعة ترفرف فوق (مسجد الخور) الذي شيّده البناءون العمانيون في عهد السيد هلال بن أحمد بن سيف البوسعيدي، بالحجارة المجصصة، وزانوا أبوابه وصَفّوا سقيفته بألواح ودعامات من خشب الكندل الأفريقي.
وفي عهد السيد ثويني بن سعيد بن سلطان آل سعيد قام العمانيون على ترميم بنائه وتوسعة محيطه، وفي ثمانينيات القرن العشرين أعاد السلطان قابوس بن سعيد المعظم – طيّب الله ثراه – بناءه على نفقته الخاصة عام 1395هـ الموافق 7519 – 1976م وافتتحه للصلاة في 28 من صفر 1400 هــ الموافق 16 من يناير1980
ومن لحظة الانتصار العظيم التي طرد فيها العُمانيون جحافل البرتغاليين جمع هذا المسجد المبارك ما بين اسمين: أمَّا الاسم الأول، وهو (مسجد الخور) نسبةً لوقوع المسجد جغرافيا في منطقة (خور حارة المثاعيب)، وجاء في المعجم الوسيط: (الخَوْرُ: مصبُّ الماء في البحر. والخَوْرُ المنخفض من الأرض بين مرتفَعَيْن. والخَوْرُ الخليج(، وفي لهجات أهل عُمان نسمع عن مصطلح: (لمة الخور) ومعناها: (مجرى دخول الماء من وإلى البحر أثناء عمليتي المد والجزر). أما الاسم الآخر للمسجد فمشهور بـ(مسجد الشهداء) نسبة إلى الخمسة عشر شهيداً من رجال الإمام سيف بن سلطان، وغيرهم من الشرفاء الذين (قضوا نحبهم) ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر في تطهير بلادهم من أرجاس البرتغاليين، وخاصة في (معركة تحرير مسقط ومطرح) حيث كان الناس يجتمعون للصلاة على الجنازات في تلك البقعة المباركة من أرض عمان الطيبة.
لم يكن (مسجد الخور/ الشهداء) مجرد بقعة مقدسة لأداء الصلوات والشعائر الدينية المتعارف عليها؛ بل إنه كان أول مدرسة نظامية في مسقط العامرة ما بين عامي (1871- 1888م)، وبدأ التدريس فيه زمن السلطان السيد تركي بن سعيد، وكان ناظرها ومعلمها ومفتيها الشيخ سليمان بن محمد بن أحمد الكندي صاحب كتاب (التحفة السنية على متن الأجرومية في علم العربية) وشارح (منظومة العقيدة لنور الدين السالمي)، يختلف إليه طلاب العلم الديني والدنيويّ، من مناطق عُمان المترامية الأطراف وخاصة أبناء حارات مطرح الكبرى والقاطنين داخل (سور مسقط) والداخلين عليه من بوابتها الأربعة (باب المثاعيب، والباب الكبير، والباب الصغير، وباب حارة ولجات)، يجلسون بين يديه يتلقون علوم القرآن وأصول الدين وعلوم العربية. وظلّ المسجد مهوى ومأوى طلاب العلم من دارسي الفقه والتشريع والقضاء على المذهب الإباضي يأتون إليه من كل حدب وصوب يجلسون إلى المشايخ والعلماء نذكر منهم القاضي هاشم بن عيسى الطائي، وسماحة المفتي العام الشيخ أحمد الخليلي، والشيخ محمد بن راشد الخصيبي، والشيخ القاضي عبد الله بن محمد الخروصي، والشيخ عبد الله بن سيف الكندي، الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري.. وغيرهم الكثير.
وبعد ترميم وتجديد المسجد في عصر النهضة المباركة استلهم البناءون فلسفة الطُرز المعمارية الإسلامية ومدارسها المتباينة، فجمعوا في تكوينه المعماري ما بين النقوش والمُذَهّبات والمُزَجّجات والمُزخرفات والخطوط الإسلامية، وراعوا تكسية منارته فخلعوا عليها شموخ الإيمان وجلال وهيبة العمران، وبساطة الإسلام، حتى إن مِحرابه يسطع بانسيابية زخرفية متناسقة الوحدات ومترابطة النقوشات إنها فسيفساء دقيقة التفاصيل ومتناهية الصغر وكأن المصمم أراد أن يشرح دلالتها على والتأكيد على مدى مراعاة الإسلام لأدق التفاصيل في حياة الإنسان المسلم، حتى إذا ما تطَلَّع الزائرون في سقيفة المسجد وجودها تتضام على شكل مربعات مترابطة ومجدولة تصل بين حدودها أسماء الله الحسنى التي لا تنفصم ولا تنفصل عن البنية التكوينية والمعمارية للمسجد؛ فهي أجزاء متناسقة جامعة للكل في كتلة واحدة.