الاحتباس الحراري.. مشكلة بيئية مزمنة

 

محمد بن سعيد الرزيقي

تعد ظاهرة الاحتباس الحراري مشكلة بيئية عالمية مزمنة يعاني منها الغلاف الجوي للكرة الأرضية في وقتنا الحاضر، وقد بدأت في الظهور والتطور منذ الثورة الصناعية التي قادتها أوروبا في القرن التاسع عشر مع ظهور الآلات والمصانع المختلفة ووسائل النقل الحديثة.

غير أنها لم تكن آنذاك تمثل قضية ومشكلة بيئية لافتة للحد الذي نراه اليوم، وإنما ظهرت كقضية بيئية منذ منتصف القرن الفائت؛ حينما تسارعت وتيرة الصناعات، وتوسع نطاق استخدام الوقود الأحفوري الذي يشتمل على الفحم، والفحم الحجري، والنفط والغاز الطبيعي؛ حيث إنه عند احتراقه  في الهواء (الأكسجين) لإنتاج الطاقة؛ فإنه ينتج من هذا الاحتراق انبعاث غازات دفيئة؛ والتي من أبرزها غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين. وقد سميت بهذا المصطلح العربي "الغازات الدفيئة"؛ نظرًا لدورها في تدفئة كوكب الأرض.

وقبل الثورة الصناعية كانت غازات الدفيئة سالفة الذكر موجودة في الغلاف الجوي بنسب طبيعية ومتوازنة، وكانت انبعاثات التلوث للغلاف الجوي يتمثل في المصادر الطبيعية كالبراكين والحرائق، التي لم تكن تمثل خطرا على ارتفاع نسب الغازات الدفيئة في غلاف الجوي للأرض؛ حيث تقوم بامتصاص القدر المحدد من الحرارة المنعكسة من الأرض لتحافظ على دفء الأرض ليعيش عليها الإنسان والكائنات الحية الأخرى، وأما الحرارة الزائدة عن حاجتهم فيتم التخلص منها من خلال نفاذها عبر الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي؛ فبهذا النظام المحكم والدقة المتناهية ظلت البشرية تنعم بالحرارة المعتدلة والمقدرة لها من لدن حكيم خبير، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49).

لكن بعد الثورة الصناعية، والتقدم في الصناعات المختلفة، وزيادة وسائل النقل، والتسابق المحموم بين الدول في امتلاك المفاعلات النووية، والأسلحة الذرية المدمرة؛ والتي جميعها في نهاية المطاف تنفث سمومها، وتدفع بمخلفاتها المدمرة للبيئة: الصلبة والسائلة والغازية في البر والبحر والجو. يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم:41). وبناءً عليه زادت نسبة غازات الدفيئة الصاعدة إلى الغلاف الجوي إلى الحد الذي أدى إلى عدم قدرة خروج كامل الحرارة الزائدة عن حاجة ساكني الأرض إلى الفضاء الخارجي، بسبب امتصاص الغازات الدفيئة للحرارة المنعكسة من الأرض، وحبسها في الغلاف الجوي؛ مسببة ارتفاعا في درجات الحرارة أو ما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري.

واليوم.. تعاني العديد من الدول الأوروبية من ارتفاع في درجات الحرارة، وموجات جفاف غير عادية، وحالات انخفاض  ونضوب غير مسبوقة في منسوبات مياه الأنهار والبحيرات، وما يصاحبه من تبعات سيئة على الاقتصاد والمعيشة هناك بل في العالم بأسره؛ إذ إن الجفاف يعني عدم قدرة السفن التنقل خلال الأنهار والبحيرات التي تعتمد عليه الدول المطلة عليها في نقل الركاب والبضائع مما ينتج عنه خسائر فادحة وارتفاع في سعر نقل البضائع، ويصحب هذا الجفاف أيضا شح في المياه، وتصحر الأراضي الزراعية، وعدم مقدرتها على الإنتاج الزراعي الذي هو عماد الاقتصاد لهذه الدول، وعصب الحياة لها ولغيرها من دول العالم ؛ مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح والمحاصيل الزراعية الأخرى، ولربما أدى إلى مجاعة كبيرة تقضي على اليابس والأخضر، وإلى صراعات بين الدول من أجل الحصول على المياه، وما تزال الأخبار تتواتر وبشكل يومي في نقل ما يحدث هناك من تقلبات سريعة في المناخ، والغريب في الأمر أنه بدأ هذا التغير لافتا جدا في هذه الدول، وهي الدول ذاتها التي بدأت حربا لا هوادة فيها على البيئة، وما يزال العالم يستذكر حادثة الضباب الدخاني المتلبد في أجواء مدينة لندن في عام 1953م، والذي تسبب في مقتل 4000 آلاف شخص.

وتهطل على دول أخرى أمطار غزيرة، وسيول جارفة، وفيضانات مدمرة أثّرت على البنية التحتية من شوارع وجسور ومشاريع زراعية وصناعية، وكبدها خسائر في الأنفس والموارد الطبيعية، والاقتصاد.

على أن  الإنسان ليس هو الوحيد المتأثر من ظاهرة الاحتباس الحراري، بل هناك الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه العيش على هذه الأرض، ويتقاسم معها مواردها الطبيعية، ولها بيئاتها الخاصة؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38)؛ فإنه حينما تنقرض الغابات، وتموت الأشجار يعني ذلك القضاء على الحيوانات والطيور وغيرها من الكائنات الحية التي تتخذ من الغابات والأشجار موطنا لها، وموئلا تلجأ إليه وتُربي وتترعرع فيه صغارها.

إن ما يحدث في العالم من تحولات سريعة في المناخ ودرجات الحرارة عزاه خبراء البيئة والمناخ إلى ظاهرة الاحتباس الحراري التي أطبقت بجناحيها على الكرة الأرضية، وفرضت واقعا فيها جديدا؛ كإعادة تخطيط المدن، والشوارع والجسور، وإدخال أنظمة التكييف (التبريد) في كل بيت من البيوت التي كانت تنعم بالهواء البارد الطبيعي.

يتوجب على جميع البشرية أن تتكاتف بصدق وأمانة في التقليل من الغازات الدفيئة وغيرها من الملوثات الهوائية، من خلال فرض القوانين والتشريعات البيئية على المصانع، وتطبيق المعاهدات والاتفاقيات الدولية ووقف استخدام الأسلحة الذرية في الحروبات الطاحنة بين الدول والذي يدفع ثمنه في النهاية البشرية جمعاء، وينبغي تشجيع الدول على استخدام الطاقة البديلة "الطاقة الهيدروجينية" والتي تنتج من طاقة الشمس والرياح المتجددتين، ويتميز بخلوه من الكربون الضار بالهواء والبيئة. وكذلك المحافظة على بقاء الغابات والأشجار، وزياد الرقعة الخضراء، وتشجيع الناس على الزراعة داخل البيوت وخارجها؛ لأن له دورا مهمًّا في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون أحد مسببات الاحتباس الحراري.

وختامًا.. ما هذه التقلبات في المناخ والطقس إلا عبرة لمن اعتبر بقلبه، واتعظ بجنانه، وألقى السمع وهو شهيد، تدل على قدرة الله العظيمة في تبديل الأحوال؛ فبين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، فكم عاث الإنسان فسادا في الأرض، ولوث البيئة، وقضى على مواردها الطبيعية؛ يلهث وراء المكاسب المادية على حساب مكوناتها الطبيعية، وسعى في حرق الحرث والنسل؛ فهذه طاحونة الحروب تشهد بذلك، وقد نهانا الله تعالى عن الإفساد في الأرض بقوله: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: 56)، والله المستعان.

حفظ الله كوكبنا الأرضي من كل شر ومكروه.

تعليق عبر الفيس بوك