مرتضى بن حسن بن علي
الأصل في الإنسان أن يكون حرًا، ويفكر بحرية، وأن يتصرف في شأنه الخاص حسب ما يرتأيه ويريده كي يحقق ذاته الإنسانية على أوفى وأوفق وجه، وليس هناك مجتمع يقدر أن يتقدم ويبدع وينتج الأفكار وتجديدها إذا كانت دمائه تجري في أوعية من حديد، وقد شغل العلماء والفلاسفة والمفكرين والكتاب بهذا الموضوع عبر الأزمان، والأمم آلتي استطاعت أن توفر مساحة معقولة من الحرية، تحركت وتقدمت وسبقت غيرها، ويقول الفاروق عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب: "لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًا".
الحريّة هي قدرة الإنسان على القيام بالأمور التي لا تضر بالآخرين، أو تخالف القانون، وللحرية حدود وقيود وشروط يتم ضبطها بالقانون حتى لا يُساء استخدامها، وإلا ألحقت أضرارًا بالأفراد والمجتمعات، والقانون لا يقمع الحرية وإنما يحميها من فوضى الحرية المطلقة، ولا تكتمل الحرية إلا بقيمة أخرى تُكملها وتضبط أثرها، وهي المسؤولية، وإذا كانت “الحرية” هي: قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإختياره وإرادته الذاتية الحرة، فإن “المسؤولية” هي: تحمل تبعات ونتائج ما يفعله الإنسان أو يتركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة كذلك، وهكذا يقترن حق الحرية بواجب المسؤولية، بحيث تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية، فالعلاقة بينهما علاقة تلازم وتكامل؛ فالإنسان حر ما لم يضر.
والقانون هو الميزان الذي يضبط حركة الإنسان وخياراته. والله- جلّت قدرته- عندما منح الإنسان حرية الاختيار، ربطها بتحمل المسؤولية.
الحرية والمسؤولية بمثابة كفتي الميزان، لا بُد من تواجدهما معا في تقابل، لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معا في تزامن وترويضها على التفاعل الإيجابي بين كفتي الميزان؛ إذ لا توجد هناك حرية بلا حدود وبلا شروط وبلا متطلبات ولا ضوابط تضبطها لتحمي الحرية ومفهومها من الانزلاق إلى الفوضى، فالحرية تقتل ذاتها بذاتها حين تكون بلا مسؤولية.
وسائل التواصل الاجتماعي وفّرت مثلما يُقال "منبر من لا منبر له"، ولكن مع الأسف فإن البعض يسيء استخدامها، ويحولها إلى منابر يتم استثمارها لاغراض التحريض ونشر التطرّف بشتى أنواعه.
بالتأكيد أن وسائل التواصل الاجتماعي أضفت متعة وشغفًا على طريقة تلقي الأخبار، وأضحى الارتباط بها أكثر من الارتباط بوسائل الإعلام التقليدية، ولكنها تحولت إلى ما يشبه "وجبة الأكل السريعة" تُؤكل وتُستهلك بسرعة، والوجبة اللذيذة تحتاج وقتًا وصبرًا، والسرعة لا تحمل الدقة والصدقية دائمًا، وهذا ما يشكل تهديدًا على مضمون الرسالة الإعلامية، وكيفية وصولها دون تشويش للمتلقي، فالرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل أصبحت أكثر انتشارًا وتنافسيةً وإمتاعًا، لكنها في الوقت ذاته أكثر عرضة للاختراق والتشويه والتزوير. وهنا يكمن التحدي الكبير في إمكانية الحفاظ على رصانة ودقة الرسالة الإعلامية وسط سيل من الفوضى غير المسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأكثر انتشارًا، والأقل مصداقية، باستثناء حسابات بعينها لا تشكل إلا نسبة قليلة جدا من عشرات الألوف من الحسابات التي يمتلئ بها الفضاء الإلكتروني.
الحرية بمعزل عن المسؤولية تؤول ضربًا من الفوضى، كما إن التركيز فقط على المسؤولية دون تأكيد الحرية كحق أصيل، ثابت، يحجم قابلية التحقق الذاتي للأفراد، وتباعًا، في الحالتين، يتعثر تقدم المجتمع ككل، تنحسر مبادرات الإبداع والابتكار، ويتعسّر الارتقاء على السلم الحضاري، فالحرية ليست ضد المسؤولية على قاعدة ان الضدين لا يجتمعان، إذا حضرت الحرية انتفت المسؤولية أو بالعكس.
الحرية والمسؤولية هما بمثابة كفتي الميزان، لا بُد من تواجدهما معا في تقابل لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معا في توازن وتزامن، كفة الحرية تحقق للأفراد كافة القابليات الإيجابية التي أودعها الله فيهم، الأمر الذي تباعا يثري خبرة الحياة على صعيد الفرد والمجتمع بسواء، أما المسؤولية، فتحرص على حماية الصالحِ الوطني المشترك، والصالحِ الإنساني العام، مما يبدر من أفراد أو تنظيمات متعددي المنطلقات والوجهات من تصرفات ضارة، ومجحفة. القيد أو الالتزام الذاتي لا يكبت قابليات المرء، وإنما يصونها عن الخطل، بل ويوجهها لما فيه نماء الفرد وتباعا نماء الأسرة والمجتمع.
المسؤولية تعني عدم التعدي على الآخر وعدم المساس بحريات الآخرين والحرص على حماية الصالحِ الوطني المشترك، من أفراد أو تنظيمات، وتجنب التصرف المؤذي، أو الاصطدام، بسلطة القانون المشترك والصالحِ الإنساني العام. بالطبع من حق الجميع المطالبة بتغيير القانون ولكن ليس من حقهم الاشتباك معه، وهكذا يقترن حق الحرية بواجب المسؤولية، بحيث تفقد الحرية معناها بدون المسؤولية، وتفقد المسؤولية معناها بدون الحرية. فالعلاقة بينهما علاقة تلازم وتكامل؛ الإنسان حر ما لم يضر.
مثلًا حرية التظاهر مسموحة ولكن ضمن اشتراطات معينة حتى لا تتحول إلى فوضى، منها إبلاغ السلطات المعنية عن الرغبة بالتظاهر، والعدد المتوقع من المشتركين، والشعارات المرفوعة، ونقطة انطلاق المظاهرة وانتهائها ومسار سيرها، لكي تتمكن السلطات من توفير الحماية اللازمة لها من أي عناصر قد تحاول الاستغلال والتعدي على المتظاهرين أنفسهم والتأكد من أن المظاهرة لا تخرج عن مسارها لإتاحة المجال للاخرين استعمال الطريق، وعكس ذلك فإنها سوف تتحول إلى فوضى.
الحرية لا تعني التجاوز والخروج عن النظام، أو الشتم والتجريح، وإلا تتحول إلى فوضى، كما لا تعني قيام المتظاهرين بالإضرار بالممتلكات العامة أو بث الذعر والاعتداء والإساءة إلى أحد، فالحرية تنتهي عند اصطدامها بحريات الآخرين، فحتى في البلدان التي تسمي نفسها بأنها "رائدة الحرية في العالم"، فإن المظاهرة تتطلب الحصول على موافقة السلطات المختصة.
لنتصور أن سائقًا يقود عربة في الطريق العام وهي مزدحمة بالركاب، فتظهر أمامه إشارة حمراء تطلب منه الوقوف، السائق يملك هنا حرية مواصلة سيره وقيادته للعربة، فلا يقف، لكن المسؤولية عن أرواح ركابه تحتم عليه الوقوف، هنا نرى ثنائية الحرية والمسؤولية ككفتي ميزان. فهو حر من جانب، ولكنه مسؤول من جانب آخر، فلو كانت الحرية في مثال حالة السائق بلا مسؤولية لجاءت نتيجة هذه الحرية كارثة ومأساة، لكن المسؤولية أخذتها إلى الأمن والطمأنينة.
توجد لدينا العديد من المشاكل والأزمات المتراكمة ونقدر أن نفهم بوجود حالة قلق تدعو بعض الفئات إلى عدم الرضا عما ترى، ويحفزها إلى أن تفتش في كل النواحي عن خيارات بديلة تومئ إلى مستقبل أفضل، غير أن بعض حالات التفتيش عما تعتقدها من بدائل تعبر عن نفسها أحيانا بطرق غير مقبولة أو مرضية، فبعض الرسائل تتجاوز حدود حرية التعبير المسؤولة، وتتحول إلى نوع من صناعة الفوضى، وقد تؤثر سلبا على البلد وأمنه واستقراره، فاللغة المفرطة في التهكم وتجاوز كل شيء وازدياد الشد والجذب والاحتكاك والجدال حولها، لن تؤدي إلى تحقيق أي هدف، وربما تؤدي إلى هدمه، والأمل الآن أن نفتح جميعًا عقولنا وقلوبنا وفكرنا لبعضنا البعض، وأن نناقش المستقبل، وأن نذهب إليه بطريقة سليمة ومُطعَّمة بتجارب الماضي، ومن واجب الجميع بدون استثناء المساعدة على فتح هذا الطريق، ويشارك على إرساء قواعد متينة تستند إليها آلية التغيير المأمون.
ظني- وربما أملي- أن وسائل العصر، مضافة إلى شحنة القلق، مضافة إلى حراك اجتماعي واعٍ، ومضافة إلى قيادة حكيمة وقادرة على استيعاب المتغيرات والتجاوب معها، قادرة كلها على أن تتحول إلى طاقة إيجابية، تصارع عدم الرضا بالأمل، ولا تصارع الأمل بعدم الرضا، من أجل بناء عُمان الغد عبر نهضة متجددة، وتحقيق تنمية شاملة مستدامة في مناخ وطني يسوده وئام اجتماعي واستقرار سياسي.