الطائيون الفقهاء (2)

 

 

 

ناصر أبو عون

Nasser@alroya.net

الوراق العماني الأكبر والنساخ الطيواني الأزهر.. حمد بن سعيد بن عامر الطائي

في هذه المقالة سنُؤرخ لسيرة الفقيه الزاهد، والشيخ الورّاق العابد، والنسّاخ الطائي الناهض، [حمد بن سعيد بن عامر]، المشهور بالطيوانيّ (مكانًا)، والمنسوب لقبيلة البطَّاشيّ (حِلْفًا)، والمولود من ظَهْر (الطَّائيّين) نسبًا وصهرًا وجذورًا وأرومةً، والعالمِ المتنسِّكِ في محاريب مجالسِ (العقر) قلبِ بيضة الإسلام النابضِ (فِقْهًا)، والإباضيّ (مذهبًا)؛ أطلّ هذا الشيخ على الدنيا في القرن الثالث عشر الهجري؛ الموافق التاسع عشر الميلادي وشهِدَ عهد الإمام عزان بن قيس البوسعيديّ وكان من رجالاته (1285-1287هـ/ 1868-1871م)، وعاصر فترة حكم: السلطان ثويني بن سعيد (1273-1282هـ/1856-1866م).

امتهن الشيخ حمد الطائيّ (الوراقة) صِنْعةً، وهي حرفةٌ شريفة ركنت إليها طائفة من الفقهاء والأمراء العِظام في عصور متباينة من تاريخ الدولة الإسلامية، وانكبّ عليها ثُلة من الأعيان الفضلاء مع انبلاج عصر التدوين، مقتديا بحياة الأعلام المشهورين، من أمثال السلطانُ الشهيد نور الدين زنكي (ت 569هـ) و"الذي كان يأكل من عمل يده فكان ينسخ الكتب"، وسائرا على خطى بعض أبناء الملوك الأولين كالأمير "شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد" الذي امتهن حرفة نسخ المخطوطات.

كان الشيخ حمد الطائي الورّاق الأكبر والنسّاخ الأزهر صاحب منهج في (النسخ والوراقة)؛ فقد أغاض كل نقص في أي مخطوط ينسخه، ويرأب الثأي في كل كتابٍ ينشره، وامتاز على أقران عصره من النسّاخين بتعدد آثاره في مهنة الوراقة، وتوزّعت مأثوراته في طائفة من المخطوطات والوثائق المتناثرة ما بين هيئة المحفوظات والوثائق، والأرشيفات الخاصة، ما بين مخطوطات علمية نسخها لطائفة من العلماء والأعيان، وكتبٍ فقهية نسخها لنفسه، ووصايا اجتماعية كتبها بخط يده أملاها عليه رجل من أعيان معاصريه، وتواقيعَ على شهادات وإقرارات مالية ومعاملات في البيع والشراء والمواريث حضرها وكان شاهدا عليها وحكما ووسطيا بين أطرافها.

وكان من معالم منهجه في النسخ والتدوين أن يقف على الأغلاط فيصححها، ويمتاح الهنّات والتحريفات فيوقذها ويرتقها، ويعمد على ما ورد من دخائل على النصوص والمتون في المنسوخات فيجتحي دفين الداء منها، ويقيم إعوجاج ما هاض من أقلام النسّاخين السابقين فيصلحها؛ وهذا ما ألمح إليه لفظا ومعنى بعد فراغه من نسخ كتاب: (طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب)، نظير أجرةٍ مدفوعة ومقبوضة من (السيد حمد بن سعيد بن خلفان بن أحمد البوسعيدي) ومؤرخة في السابع عشر من رمضان سنة 1264 هـ. فأثبت في نهايتها منهجه وشهادته وما تنطوي عليه من معالم منهجه في النسخ، وهي شهادة لا تدانيها مثاقيل الذهب وما كان ذلك إلا من حرص على نبذ التحريف، وتصحيح الأغلاط يقول فيها: (تمّ ما وجدته مكتوبًا من كتاب طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب؛ نسخته من نسخة مغلوطة، فليعذر الواقف من كثرة التحريف).

وتُشير الشهادة السابقة على أنه كان سبّاقا في وضع منهج خاص في النسخ ومهنة (الوراقة) إلا أن المناخ العام في هذا الزمان لم يسهم في تنظيم هذه الصناعة على النموذج المصريّ؛ حيث [صار لصنعتها نقابة مهنية تُعرف بـ"مشيخة الوراقين"، كان ممن تولاها عبد الرحمن بن أحمد الحميدي الذي كان "شيخ الوراقين بمصر" في حقبة أخيرة من القرن العاشر الهجري].

غير أنَّه بدأت مُؤخرا حركة واسعة الانتشار من المؤرخين والمُحققين العمانيين تنبش في المأثورات، والموروثات الورقية التي تتداولها القبائل والعائلات العمانية من جيل إلى جيل، وفي هذا جهد يثنى عليه لطائفة من الباحثين الشباب نذكر منهم د. حميد بن سيف النوفلي في كتابه: "أماكن نسخ المخطوطات في عُمان"، والذي أشار فيه إلى تأثير البيئة المكانية على النسّاخ والخطاطين، والمشتغلين بمهنة التوثيق والتدوين، وأشار إلى ارتباط هذه الطائفة بمدنهم التي عاشوا فيها، وقبائلهم التي انتسبو إليها، فذكر منهم: (خلف بن محمد الضنكي نسبة إلى مدينة ضنك، وناصر بن سالم النزوي نسبة إلى مدينة نزوى، وعامر بن راشد السمدي نسبة إلى بلدة سمد، وسعيد بن خلفان السري نسبة إلى أرض السر، وغيرهم).

وقد ورد ذكر حمد بن سعيد بن عامر الطائي كشاهد في كثير من الكتب (الوقفيّة)، ومن أهمها ما كتبه الشيخ سلم بن عديم بن صالح البهلاني سنة 1276 هـ، كما ورد في العديد من الوثائق أنّ له أجرة نسخ الجزء التاسع من (بيان الشرع) للشيخ الكندي، وكتب في نسخة أخرى من الكتاب نفسه: (نسخة لشيخه ومحبه النزيه الثقة مسعود بن سعيد بن عبد الله البراونيّ الحارثيّ الإباضيّ على يد الشيخ النزيه الرضي حمد بن سعيد بن عامر الطيوانيّ البطاشيّ والحمد لله حق حمده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

ورغم احترافه لمهنة النسخ، إلا أنه طلب من بعض النسّاخ المعاصرين أن ينسخوا له بعض الكتب المشهورة نظير أجرة معلومة، فقد أوعز للنسّاخ (خميس بن محمد بن عيسى الذبيانيّ أن يعكف على إنجاز نسخة له من كتاب: (تنوير العقول في علم قواعد الأوص لمؤلفه الشيخ ناصر بن أبي نبهان). 

أمّا الوثيقة الأكثر شهرة، وكان الشيخ حمد بن سعيد بن عامر الطيوانيّ شاهدَ عدلٍ فيها، فكانت "وثيقة بيع"، طرفاها: الإمام عزان بن قيس (بائعا)، والسيد هلال بن أحمد بن سيف البوسعيدي (مشتريا) لقطعة أرض بالرستاق تسقى من (فلج الحمام) يوم الثلاثين من شهر المحرم سنة 1286هـ.

ومن نافلة القول أنْ نُشير هنا إلى (صاحب كتاب السلوى)؛ فقد ترجم لسيرته في كلمات موجزة؛ ذاكرا أنه أخذ العلم عن والده الشيخ سعيد، ثم هاجر إلى شرق إفريقيا، واستقر له المقام فيها. فضلاً عن شهرته وشغفه بكتابة الوصايا وقسمة المواريث، وقد أشارت لهذا المقام صاحبة كتاب (الطواونة) سلمى البطاشية مُبينةً أنها اطلعت على وثيقة الوصية التي كتبها للشيخ العالم زاهر بن محمد بن عامر الطيوانيّ وأثبتتها في كتابها.