د. عبدالله باحجاج
رصدنا عملية شراء أراضٍ وعقارات في ولاية صلالة بصورة تُثير الشكوك منذ الوهلة الأولى، وعندما تتبعنا خلفياتها بقليل من العُمق، اكتشفنا أن وراءها مخالفات قانونية، تتمثل في شراء الأراضي في مناطق محظورة على الأجانب، وكل هذا يتم بصورة مُستترة؛ فهناك ضعفاء نفوس من بني مجتمعنا متواطئين معهم، فهم يوفرون لهم الشكل القانوني "الصوري"، والأجانب يستترون تحت مظلتهم القانونية، رغم أنَّ القانون قد حدد لهم -أي الأجانب- مناطق للاستثمار فيها، وتشهد ظفار الآن حركة استثمار أجنبية مُتصاعدة، وكأن الأبواب الاستثمارية قد انفتحت على مصاريعها دون قيود أو محاذير.
نحن هُنا لسنا ضد فتح أبواب الاستثمار، لكن: أي استثمارات تلك التي نُريدها؟ وفي أية مجالات نرغب؟ وهل ينبغي أن تتجاوز القوانين أم تحترمها؟ كالحالات التي تتحدث عنها المقدمة، وكحالة منافسة الوافدين الجدد المواطنين في فتح الأكشاك في المرافق السياحية؟ ويظهر على ما يبدو أنَّ هناك سيولة مالية دخلت البلاد هي التي تقف وراء موجة شراء الأراضي في ظفار، وبقيمة مالية مرتفعة مع وعود قبل الشراء بتغيير استخداماتها إلى تجارية أو صحية، كحالتين نتابعهما الآن مع الجهات الحكومية.
هل هي موجة أم مشروع موجة، أو حالات شراء محدودة تستهدف أراضي سكنية ومزارع وعقارات؟ مما نخشى معه أنْ يتكرر السيناريو السابق الذي رفع أسعار الأراضي إلى عنان السماء، وضجَّت البلاد بالمشاكل القانونية الناجمة عنها، ولن أكتم إحساسا في نفسي، وإحساسي دائمًا لم يخذلني أبدًا، وقد أصبحت أبني عليه قرارات، وهو: هل الانتماء الأيديولوجي والإقليمي للمستثمرين هو المحرك للشراء، أم هي عملية تجارية بحتة تفتقر للشرعية القانونية؟ وما هي خلفيات أموالهم؟
تساؤلات لابد من أن تُطرح حتى نضع القضية في كل الاحتمالات ضمن سياقات الزمن والمكان الجيوإستراتيجي، وفي ضوء التفكير الإقليمي لحقبة سياسية جديدة غير مسبوقة، لم يعد من ملامحها استعمال القوة التقليدية، وإنما اختراق المجتمعات من الداخل؛ لذلك لابد من التفكير في القضية المطروحة من كل النواحي؛ فبلادنا تكاد تكون الدولة الإقليمية الوحيدة التي تمتع بنظافة سياسية داخلية خالية من الجماعات المُتشددة والمتطرفة، ويمكننا القول باطمئنان إنها لم تخترق من قوى مناوئة ذات أهداف سياسية إقليمية أو دولية؛ لذلك قد تكون مستهدفة الآن، خاصة وأنَّ لها توجهات إقليمية تُمليها مصالحها الوطنية الإستراتيجية الجديدة، وقد ينظر لبرغماتيتها الجديدة على أنها تحول في سياستها الإقليمية.
لذلك؛ قد تحدث محاولات لصناعة مهددات من الداخل لحسابات مُستقبلية، هذا الاحتمال نُعلي من شأنه رغم أنه من ضروب الاستشراف الافتراضي، ونعمة الأمن والاستقرار وديمومتها التي تعيشها بلادنا تحتم طرح كل الاحتمالات فوق الطاولة.
فكيف إذا ما كان المشترون من أيديولوجيات إقليمية متصارعة مع غيرها في المنطقة والعالم، ويستهدف بعضهم مناطق سكنية وزراعية ممنوعة قانونا؟ عندها ينبغي أن تستوقفنا الخلفية الأيديولوجية والإقليمية حتى لو أنها غير مؤكدة، فهي حاملة للشك والبحث في مدى تقاطعها مع دوافع الشراء.
وتأكيداتنا الموثقة تشير حتى الآن إلى أنها عملية شراء غير قانونية كنموذج لحالة نتابعها بدوافع شخصية وعامة، ونجدها تحرك المساءلة القانونية للعنصرين العماني والأجنبي معا، وفيها استغلال مالي للأجنبي، وقلنا في إحدى تغريداتنا الأخيرة إنها عملية تبدو ظاهريا قانونية، لكنها مُبطنة بخلفيات، حيث تتم عملية الشراء من قبل مواطن، المالك القانوني في الظاهر، بينما يكون مالكها الفعلي الذي دفع ثمنها أجنبيًّا.
فما هي الضمانات التي تمنح للأجانب من المواطنين حفاظاً على أموالهم؟ إذ لا بد من ضمانات بين الجانبين؛ فلا يُعقل أن يشتري الأجنبي قطعة أرض باسم مواطن دون ضمانات لحماية أمواله؟ هذه الجزئية تحتاج لاستقصاء عميق، ولا يستصعب حصولها من قبل الجهات الرسمية المختصة، لكن ومهما كانت الضمانات، فإنها قد تُصبح إشكالية مستقبلية عندما يحدث خلاف بين ملاك الأراضي والعقارات القانونيين مع الفعليين.
ومن كل الاعتبارات السابقة، لابد من التدخل لوقف هذا النوع من الممارسات؛ لتدارك الأخطاء قبل استفحالها، وكثير من مشاكل سابقة، تركت نتيجة اللامبالاة مما أدى إلى تراكمها، وهنا نسجل مجموعة ملاحظات سريعة خرجنا بها من خلال تتبعنا لمسار حالتين.
- الملاحظة الأولى:
أنَّ جنسية المشترين تثير التوجس الأيديولوجي، أو الهواجس السياسية الإقليمية، مما تأخذ معه عملية الشراء/الموجة صورة مختلفة تمامًا، وتدخلنا في دهاليز استشرافات مستقبلية لتقاطعها مع النظام العالمي الجديد الذي يتشكل بإرادات سياسية وعسكرية على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا.
- الملاحظة الثانية:
عملية الشراء، وكسب المظلة القانونية تتم بسخاء كبير.
- الملاحظة الثالثة:
تبرز هذه القضية في مرحلة داخلية تشهد تقليص الإنفاق الحكومي، وترسيخ الرواتب المتدنية أصلا، وتحرير الخدمات الحكومية، والتفكير الجبائي الذي سيشمل كل مناحي حياتنا، والاستمرار في الخصخصة للشركات الحكومية والمرافق والخدمات الحكومية، والمساس بالتوازن الطبيعي لحجم الطبقة المتوسطة.. فمن سيصمد من المواطنين أمام إغراءات البيع، أو من سيرفض منح الشرعية القانونية لشراء العقارات والأراضي ما دام وراءها مصلحة مالية؟
- الملاحظة الرابعة:
كيف ينبغي استشراف المستقبل القريب في ضوء الملاحظات السابقة؟ من المؤكد أنه سيحدث اختلالات اجتماعية، وستمس جوهر التوازنات التي ترتكز عليها المنظومة الاجتماعية، وسيسود جنوح الماديات على التفكير العام، وإذا ما وسعنا الرؤية، وأضفنا إليها استحكام القطاع الخاص المحلي والأجنبي على الشركات والخدمات والمرافق العمومية الأساسية بعد خصخصتها، فإنَّ الأجانب أصحاب الأجندات الداخلية والخارجية سيكونون هم المتحكمون في فرص الوظائف والمرتبات، فهل من المستبعد أن يوظفوا شركاتهم لصالح أجندتهم؟!
ندعو لفتح هذا الملف عاجلا، للدواعي التي ذكرتها سابقا، وذلك حتى نتحكم في التداعيات قبل أن تترسخ بنيويا، عندها سندفع الثمن كبيراً، أما الآن، فإنَّ الحتمية الوطنية تقتضي التأكد من خلفيات الاستثمار، فمن كانت خلفياته قانونية، واستثماراته في مسارات وأهداف النهضة المتجددة، فكل الأبواب الاستثمارية تُفتح له، وتقدَّم له التسهيلات اللازمة.. أما تلك التي تصاحبها خلفيات غير قانونية، وتواطؤ محلي معها -إذا ثبت ذلك- فإن ردعها قانونا وفي الوقت المناسب ينبغي أن يكون الشغل الشاغل مؤسساتيًّا الآن، ولا تؤجل، ولو أُجِّلت سيتم ابتلاع الأراضي، ورفع قيمتها السعرية مما سيزيد التعقيدات فوق عقدها القديمة والجديدة.