صراعٌ لن يُبقي ولن يذر!

حاتم الطائي

 

◄ زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان "استفزازية" وتحرض على نشوب حرب إقليمية

◄ حلف "الناتو" بتقنياته العسكرية سيزعزع التوازن الإستراتيجي والعسكري في الغرب

◄ على العالم أن يقول "لا" بأعلى صوت لكل من يسعى للتحريض على إشعال فتيل الحرب

 

 

لم تنتهِ بعد أزمة أوكرانيا؛ بل لا تلوح في الأفق أية بشائر بأنَّ الحرب ستضع أوزارها قريبًا، حتى سعى مُؤججو النيران إلى إشعال فتيل حرب جديدة، إلا أنَّها هذه المرة في منطقة غير تقليدية، لكنها تقع في القلب من ترسانات هائلة من الأسلحة والذخيرة وحاملات الطائرات وقاذفات الصواريخ، وما هو أعظم!

الحديثُ هنا عن الزيارة التي قامت بها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان، رغم التحذيرات الشديدة التي أطلقتها الحكومة الصينية والتبعات غير المرغوب فيها التي ستنجم عن مثل هذه الزيارة. الحقائق على الأرض تُشير إلى أنَّ الزيارة استفزازية بجميع المقاييس؛ بل وتصل إلى حد التحريض على نشوب حرب إقليمية في تلك البقعة المُكدَّسة بشتى الأسلحة من العالم، وكأنَّ أزمة أوكرانيا وما خلفته من تداعيات شديدة الحدة على الاقتصاد العالمي والاقتصادات الوطنية في مُختلف قارات العالم، ليست كافية، وكأنَّ أمراء الحرب ومن يتعطشون للدماء ومشاهد التفجير وإطلاق القذائف، لا يكفيهم ما يحدث في أوكرانيا؛ بسبب تعمُّد الغرب استفزاز الدب الروسي. فلا شك أنَّ المساعي الغربية لضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي "الناتو" هي المُسبب الأول لاندلاع الحرب في أوكرانيا؛ إذ لم تكن روسيا تنوي شن أي عملية عسكرية لولا التحركات الغربية العسكرية في أوكرانيا التي يُمكن اعتبارها الخاصرة الرخوة لروسيا الاتحادية، فهي (أي أوكرانيا) كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق؛ والكثير من سكانها ينتمون للقومية الروسية، خصوصًا المناطق المجاورة مُباشرةً للأراضي الروسية. لذا؛ فإنَّ وجود حلف الناتو بتقنياته العسكرية الغربية -تحديدًا الأمريكية- من شأنه أن يزعزع التوازن الإستراتيجي والعسكري في شرق أوروبا؛ بل وقد يمهد الطريق لتوسع أكبر لهذا الحلف الذي يعلم المراقبون مدى العداء الذي يُكنه لروسيا الاتحادية.

ورغم أنَّ الغرب بقيادة أمريكا لم يُفلح في إيقاف روسيا البوتينية عن تحقيق أهدافها من العلمية العسكرية في أوكرانيا، في ظل العقوبات المُجحفة والمُصادرات والنهب غير المشروع للثروات والأموال الروسية في الخارج، إلّا أنَّ المساعي الرامية لاستفزاز القوى العظمى المُنافِسة لأمريكا بهدف إسقاطها في براثن حرب هنا أو هناك لا تتوقف؛ بل تتزايد وتيرتها كلما استشعرت واشنطن ضعف موقفها داخليًا وخارجيًا. فلا يخفى على أحد أنَّ أمريكا أكبر اقتصاد في العالم تواجه حاليًا بوادر أزمة اقتصادية جديدة نتيجة التضخم المُتزايد وارتفاع قيمة الدولار، في ظل محاولات غير مُجدية -حتى الآن- لكبح جماح التضخم، ومساعٍ يائسة لتحسين وضع المواطن الأمريكي معيشيًا. أضف إلى ذلك الحرج الدولي الذي تتعرض له أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون، نتيجة فشلهم في وقف الحرب بأوكرانيا، والإخفاق الشديد في تعويض واردات الطاقة الروسية وكذلك الفشل في خفض أسعار النفط العالمية، فكل هذه العوامل مُجتمعةً تضغط بشدة على الاقتصاد الأمريكي واقتصادات أوروبا، لا سيما بعد قطع إمدادات الغاز الروسي عن دول أوروبية.

إذن؛ لا يُمكن قراءة زيارة بيلوسي إلى تايوان سوى على أنها محاولة لتحريض الصين ودفعها لخوض غمار حرب ستكون مدمرة بكل المقاييس. لكن المُفاجأة الكبرى أن حكومة بكين تعاطت مع الأزمة بحكمة صينية معهودة، فالصينيون صُنّاع حضارة، ويسعون للحفاظ على ما تحقق من مكاسب حضارية على مر القرون والعقود المنصرمة، ولا شك أنَّ أي تحرك عسكري صيني سيُقابله تحركات أخرى، وربما تتسع دائرة اللهب وتطال أجزاء عدة من العالم. وقد تجلت الحكمة الصينية في الرد الدبلوماسي على تلك الزيارة الاستفزازية؛ حيث فرضت بكين عقوبات على بيلوسي، كما أعلنت عن خطوات دبلوماسية تصعيدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ليس أقلها تعليق التعاون الأمني في مجال مُكافحة المخدرات، ولن تقف عند "إنهاء الحوار على مستوى القيادتين العسكريتين الإقليميتين للصين والولايات المتحدة، وإنهاء الاجتماعات مع المُمثلين الأمريكيين في إطار آلية الأمن البحري"، وكل ذلك في إطار العقوبات التي نفذتها الصين اعتراضًا على زيارة بيلوسي.

الصين تُدرك يقينًا متى يُمكن لها أن تُحارب ومتى لا يُمكن، كما أنها تعلم يقينًا توقيت خوض حرب من عدمه، وهذه استراتيجيات راسخة في فلسفة الحُكم الصيني، ومبدأ" الصين الواحدة" تعترف به دول العالم والشرعية الدولية، حتى أمريكا نفسها، وهذا ما أكده وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، عندما سارع للتأكيد على موقف واشنطن من أنها "لم تُغير موقفها من سياسة الصين الواحدة، ولا ندعم استقلال تايوان"، في محاولة لاحتواء الغضب الصيني على زيارة بيلوسي.

المؤشرات تُوضح مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه أمريكا عندما سمح البيت الأبيض بزيارة بيلوسي لتايوان، وتؤكد الدور السلبي للولايات المتحدة في حفظ وتعزيز الاستقرار والسلم الدوليين. لكن في الوقت نفسه، فإنَّ مثل هذه التصرفات الرعناء خير برهان على ما يمر به العالم من متغيرات وتحولات نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا هيمنة فيه لقوة واحدة؛ بل قوى متعددة تضمن المزيد من الاستقرار والأمن في العالم.

إنَّ العالم في ظل الظروف الراهنة لم يعد يحتمل أية تصرفات غير مسؤولة قد تُهدد مصير عشرات الملايين من البشر، وتُنذر بتفاقم الأزمات الاقتصادية الحادة، وتُحيل العالم إلى مكان لا يُمكن العيش فيه بأمان، عندئذٍ سيقع الانفجار الهائل الذي لن يسلم منه أحد، ولن يكون حربًا عالمية ثالثة؛ بل حربًا كونية على الكوكب بأسره.

ويبقى القول.. إنَّ الحكمة تقتضي التمسك بأعلى درجات ضبط النفس وعدم الانجرار وراء أعمال تحريضية تقوم بها أطراف لا تُدرك خطورة الوضع ولا مآلاته المأساوية، وعلى العالم وفي المُقدمة الأمم المتحدة والمنظمات الراعية للسلام أن تقول "لا" بأعلى صوت لكل من يسعى للتحريض على إشعال فتيل الحرب أو النفخ في وقودها، فأيّ حرب قادمة لن يسلم منها أحد وستكون مدمرة للجميع!!