الجيرة والمقايضة.. التنقل والرقايا (1-3)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

يعتبر موسم الخريف في محافظة ظفار- بحق- هبة الله إليها على مدى عصور مضت؛ حيث يتجدد هذا الموسم كل عام بتوقيت وتقنين محكم وبانتظام دقيق بقدرة قادر مقتدر، تتقاطر السحب منذ بدايات هذا الموسم فلكيا على ظفار منذ القدم، حسب جدول زمني محكم للنجوم والمواسم في ظفار، تعاقب على تحديثه علماء أجلاء ومحققون على مدى قرون مضت، كان آخرها تحقيق وتحديث هذا الجدول للوصول به إلى دقة متناهية في المواقيت، وذلك في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، قام به المرحوم الشيخ الجليل عبدالله باشعيب إمام وخطيب جامع الشيخ علي بالحافة.

21 يونيو من كل عام يعتبر أول أيام دخول فصل الخريف في ظفار فلكيا؛ حيث تتوارد إليها الكتل السحابية فرادا وجماعات من جهة الجنوب، مجتازة المحيط الهندي وبحر العرب، وتتلبد شيئا فشيئا في سمائها حتى تستقر على أرضها الطاهرة، أرض الأنبياء والأولياء والصالحين، فتتولى سلسلة جبال ظفار حجز هذا الكتل السحابية لتمنعها من العبور والنفاذ إلى الشمال؛ حيث النجود والبراري والصحاري الشاسعة التي تتصل بصحراء الربع الخالي، لكي لا تتشتت هناك في هذا المتاهة الجغرافية الشاسعة وتذهب ريحها هباء.. فما أدراك ما الربع الخالي!

تنحجب الشمس عن الأرض تماما في هذه الفتره فتؤتي أؤكلها وتخرج بقولها وفومها وعدسها وتمد خيراتها لأهلها، بينما تكون الشمس حواليها في أوج وهجها على معظم أنحاء جزيرة العرب، بل إنها تنكشف بعد أمتار قليلة فقط شمال سلسلة جبال ظفار، لا مناص بعد هذه القبضة المحكمة لجبال ظفار على هذه الكتل السحابية أن تصبها السماء مطرا بإذن الواحد الأحد، لكن.. وهنا الغرابة.. هذه الأمطار الناتجة عن هذه الكتل السحابية الكثيفة تنزل على الأرض في شبه أعجوبة أيضا على شكل زخات رذاذ لا زخات أمطار، ويستمر تواصلها أحيانا الليل مع النهار لفترات زمنية قد تتجاوز الشهرين خلال هذا الموسم المحدد فلكيا بثلاثة أشهر فتتحول إلى صيب نافع.

تُصبح الرؤيا متعذرة على الجبال تماما، حتى إنَّ بعض قمم هذه الجبال الشاهقة كقمة سمحان تأبي إلا أنَّ تخترق هذه الكتل السحابية رأسيًّا لتعانق ضوء الشمس في بانوراما مناخية، قلّ أن تجد لها مثيلا على مستوى الكرة الأرضية.. يا سبحان الله الخالق الصانع!

ذرات رذاذ وزخات متواصلة تروي الأرض وتنبت الزرع من مخلفات بذور الخريف من العام السابق فتتحول كل عام في هذا الموسم إلى بساط أخضر سندسي وتؤرق الأشجار من جديد ليكتسح الخضار كل رقعة وبقعة فيها لتغذي الزرع والضرع، أينما ولّيت وجهك في هذا الموسم يتراءى لبصرك هذا الاخضرار وتنتعش كل جوارحك بمداعبة هذا الرذاذ لجسمك، كأني بكِ يا ظفار تصبحين جنة الله مصغرة في أرضه تسر الناظرين وتروى العطاشا وتطعم الجوعى.. إنه رخاء ظفار في موسمها الاستثنائي المميز.

الإنسان بالطبع هو الكائن سيد المستفيدين من هذا الموسم المتكرر سنويا ويعود لفائدته في نهاية المطاف، فبالاضافة إلى ما ينوبه من خير وفير من زراعة الأرض في هذا الفصل من المناطق الساحلية ينوبه أيضا الكثير من مزروعات الجبل في هذا الفصل كالدجر (الفاصوليا) والمهيندو (الذرة الصفراء) والمسيبلي (الدخن) والحشواء (خيار بحجم القرع المتوسط لذيذ الطعم) وغيرها مما يستفاد من أكله بعد زرعه هناك وتتولى السماء ريّه، وأيضا من بعض النباتات لذيذة المذاق نادرة الوجود التي تنمو طبيعيا دون أي تدخل بشري في هذا الموسم الماطر يين الشجيرات والحشائش؛ كالقمباء (الفطر البري) الذي لا مثيل له بين أنواعه على مستوى العالم والبيضاح (بقوليات لذيذه الطعم زكية الرائحة) وغيرها.

إنه موسم سيد كل المواسم في ظفار، موسم استثنائي في كل شيء.. إنه خريف ظفار بخيراته الوفيرة والمتعددة.

ولابد لموسم مثل هذا أن تُصاحبه عادات وأعراف وتقاليد تنشأ بين أهله وأفراد المجتمع لخصوصيته التي يفرضها عليهم.