مُذنَّب السياحة والقطع الناقص

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

قد يكون بالإمكان إقناع الكثير من الذين لا يعلمون أو من غير أهل الاختصاص بفكرة التطوير؛ من خلال إضافة بعض الزخم إلى الأمور الشكلية، والتي تبدو مقبولة نظريًّا، لكنها مبنية في حقيقتها على مُعطيات بسيطة ومحدودة جدا، وهكذا يكون المبدأ الأصلي للتطوير قد طُوِي لفترةٍ طويلة مع بقاء ظهورهِ اللامع.

المُذَنَّبات هي عبارة عن أجرام سماوية تجري في مدارات بيضوية طويلة جداً في النظام الشمسي، فتظهر لفترة قصيرة ثم تغوص طويلاً في غياهب الفضاء السحيق حتى تعود مجددا في دوران فلكي منتظم أمكن حسابه ورصده، المهم أنها تدخل في دورتين؛ هما: الظهور المصحوب بالغرابة، ثم الأفول المتبوع بالنسيان.

تدور الأرض وتتبدل الفصول وتتغير الظروف والأحوال، ويحل موسم الخريف بعد دورته الشمسية السنوية ليعاودنا كما عهدناه، يُعايشه السكان من أهل المنطقة ويرصده البعيد أملاً في القدوم والاستمتاع والترفيه والانتقاد، وهذا ما فعله أبو سامي.

قادماً بسيارته قبل أربعة أعوام، فيتزود بالوقود في محطته الأخيرة مدينة ثمريت، ثم يُواصل مجدداً بعد أداء صلاتيْ الظهر والعصر، إذ يتراءى له ما يُشبه فقاعة عملاقة رمادية اللون من وراء الجبال، وهو يساير التيار على وشك اختراقها مع سيل السيارات العرم، حتى إذا طرق أول مطب بعد رحلة طويلة عند بوابتها في مركز حريط، وأُذن له بكل بشاشةٍ ورحابة صدر، توقف جانباً وألقى بجسده المُنهك على الأرض الخضراء الكريمة، واغتسل برذاذ السماء مغتسلاً بارداً سال مع قطرهِ التعب والإرهاق، وهام بنشوةٍ عارمةٍ إلى السحاب السخي ليغفو مع نسيم الجبل على مشاعر إنسانية بين تصديق نفسه وتكذيبها.

يعود هذا العام، ولم يرَ جديدًا، باستثناء إطلال حديقة مائية ومركز كان ترفيهيا، وانتشار لافت للباعةِ، ومَحالٍ كثيرة متلاصقةٍ ومتباعدة، والبيوت والاستراحات تلتهم المساحات في سهلٍ فسيحٍ يتآكل بالمسورات وحدائق ذات بهجةٍ وسط أحياء سكينةٍ تبث الموسيقى الصاخبة في الليل، وهو ليس مهتماً كثيراً بدورات المياه والأمور الشعبية فقد جاء قاصداً الطبيعة.

عندما رصد أدموند هالي المُذنب المعروف سلفاً قبل مئات السنين، والذي يدور في مجموعتنا الشمسية، أضفى عليه اسمه الشخصي، ثم وضع له المخططات الفلكية، على أن يعاود الظهور كل خمسةٍ وسبعين عامًا، وهذا الحساب الدقيق جعله قابلا للرصد بدون الاعتماد على التنبؤات والاحتمالات، وقد رآه الناس نزلة أخرى عام 1986م، السيد هالي مات وهو يعتقد بنظرية الأرض المجوفة وكذلك يسقط البعض في وهدة العلوم الزائفة.

يدور خريفنا في فلكه السياحي بشكل القطع الناقص أو البيضوي الإهليلجي؛ بحيث يظهر لنا واضحاً جلياً في الربع الثالث من كل عام ميلادي، عندما يكون قريباً من ظفار بؤرة المركز، ومع كل دورة خريفيةٍ تنهال التوقعات والتنبؤات والاحتمالات بشقيها، الفلكي وما يصاحبه من قوة وضعف وطول وقصر وحساب نجوم، والطبيعي وما يصاحبه من برامج ومناشط ومشاريع وتذمر وزحام، وعلى كل حال نحن نعيشه سنويا كأنه زائرٌ جديدٌ علينا نشاهده لأول مرةٍ بنظرة أبو سامي لا بنظرة هالي، حتى يغادر خريفنا جاراً بذيله كل ما صاحبه في أوج نشاطه ليختفي مجدداً في دروة الغياب والنسيان.

إذا أرادت دولةٌ ما إنشاء مدينةٍ جديدةٍ؛ فمن البديهي أنْ يسبق ذلك تخطيطٌ طويل وحسابات وقياسات مضنيةٌ، ولكن الأهم هو القدرة على التخيل بوضع كل التوقعات في الحسبان، خصوصاً الزيادة في عدد السكان والمنشآت والخدمات، حتى لا تُصدم مثلاً بمحطة توليد كهرباء في قلب المدينة، أو تتلوث مناطق سكنية بأبخرة مصانع، وقد تذهب تلك الدول بعيداً إلى محاكاة ذلك علميا بناء على الإحصاءات العددية والدراسات الموثقة المعتمدة.

وفي خريفنا، يحدث ذلك كله خلال الموسم من كل عام، وبشكل واقعي وحقيقي، وليس مبنياً على توقعات واحتمالات بسبب توافد الآلاف من الناس والسيارات، ولا يتطلب الأمر هنا قدرة فنية كبيرة على التخيل، ولا محاكاة افتراضية لتحليل النسب، بقدر ما يتطلبه من عمل وتنفيذ يحققان الاستدامة.