أسماك القرش والإنتروبيا

عائشة السريحية

في زحمة الشوارع، وضجيج السيارات، التي تتراكم كطابور نمل شكَّل جسرا مترابطا أمام ضفة نهر، للعبور للجهة الأخرى، تعتريك في لحظة الانتظار والحركة البطيئة التي ينبض بها الشارع بتواتر يعتمد على ابتسامة إشارة المرور الخضراء، لحظات تأمل وتفكير؛ لذلك يلجأ البعض لفتح الموسيقى والاستماع للأغاني أو ربما الإذاعة، أو يستمع لما يحب في تلك الدقائق.

بالأمس، كُنت أستمع لأغنية جذبت تفكيري كما يجتذب الضوء الفراشات، جعلتني أعيدها مرارا وتكرارا، أي نوع من الأغاني هي تلك التي تشل تفكيرك للحظات لتعيد الاستماع إليها!

كأنها مارد استلَّ سيفه على أفكارك المتناثر، آمرا إياها بالتجمع في ساحة واحدة، ثم بدأ بإعدامها تباعا حتى يمل، فيعفو عن فكرة وحدة ويقول لها: اذهبي فأنت طليقة.

تلك الأغنية فصلتني عن كل شيء، ولم يعد انتظار إشارة المرور لتحنو علينا، ولا الطابور الطويل أمرا مملا، بل أصبح أكثر متعة، كلماتها الإنجليزية لا تتحدث عن العاطفة والحب، ولا عن الفراق ولوعته ولا عن الخيانة وبشاعتها، كانت تتحدث عن شيء مختلف تماما، وكأنها تريد إيصال معلومة تحوم في فلك المتغيرات العالمية، وأكد ذلك حين يصدح المغني ملقيا اللوم على الإنتروبيا!

وحين نسمع تلك الكلمة يتبادر للذهن المعنى الحرفي للكلمة، وهي تعريف فيزيائي ورياضي ولها أصل يوناني يعني "التحول".

فحين يعرف القانون الثاني للديناميكا الحرارية بمبدأ أساسي؛ ينص على: إنَّ أي تغيير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي، لابد أن يصحبه ازدياد في مقدار إنتروبيته. أي عشوائيته -إن جاز التعبير- لابد أن يكون للتحول الإنتروبي دلالة مجتمعية قصدت الأغنية بها ذلك لا النظرية الفيزيائية، ولو وضعنا التغيير العشوائي في نظام مجتمعي وفق الإنتروبيا المجتمعية، لوجدنا أن أقرب مثال للتعبير عن هذه الحالة هو تماما كوضع قطرة حبر ملون في كأس ماء، حيث يبدأ الحبر في الانتشار بشكل عشوائي حتى يتجانس تماما مع الماء الصافي ليصل لحالة الثبات والسكون.

الإنتروبيا الاجتماعية.. هي مسارُ التحول بطريقة عشوائية، تبدأ في التشكل وفق ظروف محيطة مرتبطة باتصال المجتمع الواحد مع بقية المجتمعات، تتوافق فيها المصالح المشتركة وتتقاطع، وتنشأ عملية التأثر والتأثير، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الصحي، كما شهدنا مؤخرا جائحة كورونا التي ما إنْ بدأت في الصين حتى استقرت في كل دول العالم، وكالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وتأثر دول العالم بها، وكما حدث مع عدد من البلدان التي أفلست، وتلك التي باتت مهددة بالإفلاس، وعلى الجانب الآخر، نجد التأثير الثقافي والأيديولوجي الذي أصبح ثقافة عالمية؛ مثال على ذلك: دور الأزياء والموضة، صناعة السينما والإنتاج الفني، المفاهيم العامة في الأخلاقيات ما بين قبول ورفض... وغيرها .

هذه جميعها لم تبدأ بثبات، لكنها كانت كقطرة الحبر الملون الذي أخذ حيزا زمنيا لينتشر ويتجانس. إذن؛ فمقدار التحول في المجتمعات يحتاج لعوامل، منها: الزمن والظروف الاقتصادية، والسياسية، والضغوطات الخارجية، وحين تصبح الصورة واضحة لمقدار حجم قطرات الحبر، نستطيع أن نتفادى وقوعها قبل أن تتجانس مع مجتمعاتنا، لتصل لمرحلة الثبات والسكون.

تلك الإنتروبيا التي نخشى تسربها بين أأيدينا، بدأت تتسلل عبر هواتفنا، ووسائل الاتصال الاجتماعي، والتقليد الأعمى، وبروز شخصيات لها جاذبية وكاريزما، تُصنع لتصبح نماذج يقلدها الشباب، دون أن يدركوا حقيقة اللغة النفسية في أدلجة العقول وتغيير قناعاتها، وربما تكون الإنتروبيا أيضا تلك الأفكار الهدامة التي يروج لها محترفون لتعظيم مشاكل صغيرة، ومنحها أبعادا كبيرة تجعل المتلقي لها يشعر أنه يحتاج لاقتلاعها بطريقة عشوائية وهدامة.

ونظرا لتأثر كثير من الشباب والمراهقين بتلك الأفكار الإنتروبية، يجد الشاب نفسه ضحية لأفلام ومسلسلات وأغان ومشاهير، يجعلون من المخدرات والمسكرات، والشذوذ، والسرقات، وخلق الفوضى، والانتحار، والعصيان، والابتعاد عن الدين والعادات والتقاليد، تمردا شجاعا، يستلهمون فضيلته من تلك الأوهام التي تزرع لهم من خلال نقل نماذج سيئة يتم الترويج لها عبر منصات عالمية كبيرة رؤوس أموالها بمليارات الدولارات.

وقد تتعدَّى الإنتروبيا أنْ تكون مجتمعية فقط، فقد تصبح سياسية، تظهر فجأة في مكان لتخلق فيه الفوضى، ثم تنتشر كالنار في الهشيم كما حدث فيما سمي بـ"الربيع العربي"، الذي بسبب المتغيرات الناتجة عنه لم نجد سوى ازدياد الأمر تعقيدا، واستقرارا لركام المآسي والقلق الأمني والسلم الاجتماعي.

وقد تُصبح إنتروبيا إعلامية، فنجد المنصات الإعلامية بمختلف أنواعها، باتت مرتعا للحروب الباردة أو التهويل والضجيج وخلق البروباغندا والشائعات، فتنتهي بمشاكل حقيقية على أرض الواقع. وقد تصبح إنتروبيا للراديكالية المتطرفة، فتصبح منابر لتغيير الوسطية والاعتدال، وتجر إليها الكثير من المغرر بهم، تحت مسميات دينية هدفها التدمير لا التعمير.

ولو أسقطنا هذه الكلمة على كثير من الأمور والأوضاع، لوجدنا أنَّ هناك رابطا وثيقا بين قوانين الفيزياء، ومفاهيم بناء المجتمعات، والديموغرافيا والبراغماتية.

وعودة على بدء، وبعد تفكير حلَّقت به بعيدا، أيقظتني أصوات أبواق السيارات، وتحركت القافلة، وتنوعت المسارات، وأعدت الاستماع لأغنية (sharks) أدندن معها حتى وصلت لمحطتي الأخيرة.