عندما تحل ذكرى 23 يوليو

علي بن سالم كفيتان

شاءت الأقدار أن أكون هذا العام في مسقط في صبيحة 23 يوليو، وهي المرة الأولى لي بعد رحيل المغفور له- بإذن الله تعالى- السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه.

كان صباح مسقط مشمسا وجوها قائظًا، فجرَّتني عجلات سيارتي مُنقادًا دون شعور إلى حيث يرقد رجل الأمن والسلام، أوقفت مركبتي وترجَّلت إلى الرصيف المحاذي لمبنى القبر، كُنت أتوقَّع أنَّ الوقت مُبكر، وأنَّ الحر سيكون لاهبًا، ولن أجد أحدًا، فوجدت نفسي وسط مجموعة من الأوفياء لقابوس في يوم عيد النهضة التي قادها صبيحة هذا اليوم من حاضرة الجنوب مدينة صلالة الحالمة، وانتهت الرحلة بعد خمسين عامًا في مسقط العامرة، مُكلَّلة بنياشين المجد والعزة والانتصار على كل التحديات. فرحل قابوس، وترك وطنًا أمنًا وشعبًا يُحبه ويبكي فقدانه.

كانت إلى جانبي سيدة بسيطة، ومعها ابناها اللذان لم يتخطيا سن العاشرة، باسطة حصيرها، وجالسة تمد يديها إلى السماء، وتنهمر على وجهها زخَّات من الدموع الحارة، وبين الفينة والأخرى تمسحها وتُعيد ابتهالاتها إلى رب العالمين. البنت الصغيرة تنظر إلى أمها، فتجلس خلفها وهي خائفة، ترمقني بنظرات حزينة، بينما الولد يلعب بجانب السور، كنت أنوي الدعاء واقفًا والذهاب، لكنَّ المشهد جذبني للبقاء؛ فالناس تتوافد، والجميع يفترش الأرض ويرفع كفَّيه إلى السماء صادقًا مُخبتًا لرب العرش العظيم، أن يرحم رجلًا عاش لأجلهم ومات وقافًا رغم ألمه، ليبعث لهم برسالة خالدة مفادها أنَّ العظماء يرحلون واقفين، وأن وصيته فيهم هي الثبات حتى الرمق الأخير مهما بلغت الصعاب، وادلهمَّت الخطوب.. فرحم الله "فارس 23 يوليو".

تَوَافد الناس حتى اكتظَّ المكان، وما لفت نظري أنَّهم ليسوا من كبار السن فقط، بل معظمهم من الشباب، أتوا من ولايات بعيدة، جلبتهم الأقدار إلى مسقط للبحث عن أمل يُحيى طموحاتهم، فلطالما كانتْ العامرة بوابة الخير ومنفذًا لرسم لوحة السعادة للجميع. هنا شعر الجالسون والواقفون بدفء الرجل الراقد بالقرب من المكان رغم الرحيل؛ فقابوس لم يُوجد لجيل واحد، أو تراب واحد، فهو نبات جميل شكَّلته هيبة السلاطين وسمو الهمة وعلو المكانة، فاختلطتْ بشموخ جبال ظفار وإنسانها، ليكون قابوس تلك الهامة السامقة كشموخ قلاع بلادنا وحصونها العظيمة وسجية أبناء الجنوب في الدفاع عن الفضيلة ومنح الروح رخيصة لأجلها.

أخذتني العبرات، وشرد فكري بعيدا عن الحدث، واستحضرتُ اللحظات التي جمعتني بالسلطان وكلمته وهو يقول لي يوم تخرجي من جامعة السلطان قابوس: "مبروك علي"، فرغم كثرة الخريجين وطول الوقوف، كان جلالته ينصت للاسم من مُقدِّم الحفل ليُبارك لك باسمك بنفسٍ رضية، وابتسامة لا يعرف حَلَاتها إلا من عاشها.. البعض كان يتساءل من الفرحة بعد التخرج: كيف عرف اسمي؟

بعد نصف ساعة قضيتها هنا، رحلتُ وخلفي أناس ما زالوا يتوافدون للسلام والدعاء لقائد النهضة العُمانية ومؤسس خطوات ثباتها في يومها المجيد، بقدر الحزن والألم الذي يعتصر الحاضرين إلا أنهم عندما يُنِيخون رَكاب همومهم جنب ذلك السور، ينطلقون في رحلة نورانية تحلِّق في سماوات قابوس؛ فالبكاء والدموع تغسل النفس وتزيل العوالق التي كنزها الزمن وغذَّاها الفقد، هذا ليس مشهدًا تراجيديًّا، بل واقعًا حصل أمامي صباح السبت الماضي في منطقة غلا، ليس بعيدًا عن جامع السلطان قابوس الأكبر؛ حيث صلَّت الجموع عليه قبل أن يواري الثرى هنا منذ عامين ونيف.

علمتُ من هذا المشهد أنَّ العُمانيين لم يطووا جراح الحزن بعد، وأنَّ الحِدَاد سيطول على سلطان خالد؛ فقابوس غرس محبته في الصغير والكبير، في الرجل والمرأة، الغني والفقير، فكان يبحث عن الضعفاء الذين لا يستطيعون الوصول إليه، يفتِّش عنهم في القرى والحلل، ويقطع الفيافي ويلج الوديان، ويصعد الجبال، باحثًا عمن تقطعت بهم السبل، وحال الوقت بينه وبينهم، ليولد كل شيء لهم عندما يحل في المكان.

حدَّثني رجل ذات يوم عن قصة حاسك، قائلًا: مر السلطان بيختِه بعد أن أسدل الستار عن الخريف في ظفار، متوجها إلى مسقط كعادته، وعندما صارت اليخت السلطانية قُبالة حاسك، نظر لها قابوس بمنظاره من على شرفة اليخت، فرآها قرية صغيرة مقطوعة، بها بيوت من طين، ومجتمع صيادين بسيط، فغضب وسأل عن الطريق والماء والكهرباء والمدارس، وكانت الإجابات مُخيِّبة، فقال: "مضت أربعون عاما وهم على هذه الحال". فأمر بالطريق والماء والكهرباء، وبناء بيوت جديدة لجميع سكان حاسك.. أتدرون لماذا؟ لأنه يريد تعويضهم عمَّا فاتهم.

رحم الله السلطان الخالد، وكل عام وأنتم بخير بمناسبة ذكرى الثالث والعشرين من يوليو المجيد.