يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"ويجب ألا نسلم بكل ما يقوله الضيف، إِذْ لا بد من تقييم أهمية المقابلة الشفهية تاريخيًّا، والنظر إلى قوتها وترابطها، وعدم تناقضها، وعدم وجود التحيز، ومقارنتها بالمعلوم من المصادر التاريخية الأخرى؛ إِذْ قد يكون الضيف ذا ذاكرة ضعيفة أو تكون رواياته ضبابية المحتوى" - محمد عبدالرزاق القشعمي.
*****
من القواعد التي تُبنى عليها كتابة التاريخ وتوثيقه هي قاعدة التأريخ الشفهي، وهو منظر مهم من مناظر التاريخ بأقسامه المختلفة، وهناك من يعتقد بأنَّ التاريخ الشفهي هو المدخل الأهم لمعرفة ماهية الحدث، كون المؤرخ المستعين بأحد عناصر الحدث وقام بتوثيق شهادته قد وصل إلى أقرب اليقين، ولا تزال هنالك أحداث تاريخية في التاريخ الحديث والمعاصر يُغلفها الجدل ويحكمها الشك قبل اليقين، هنا تكمن خطورة الاعتماد على مصادر ليست على قدر كاف من الثقة المأمولة، وهنا بيت القصيد لمن يخفض درجة الثقة في التأريخ الشفهي !
قبل سنوات، فكَّرت بأخذ شهادات لأناس معاصرين شهدوا "حدثا تاريخيا مهما"، وكنت أعتقد بسذاجة المبتدئ أن الثقة كافية حتى أتوصل للثقة اليقينية لهذه الشهادات المهمة، ومع بداية إجراء أول حوار، وكانت الخطة الموضوعة أن أراجع تسجيل الحوار مرة أخرى بيوم آخر، بصحبة من تحاورت معه أو الشاهد على الحدث، ومن ثم تفريغ التسجيلات على الورق، اللافت أن "كثيرا مما قيل" في الحوار الأول يتم نقضه بالمراجعة وبأعذار مختلفة؛ أبرزها: اشتباه الخلل في مصداقية الشاهد؛ مما أعطاني فكرة كافية عملية حول أهمية وصعوبة التيقن في التأريخ الشفهي.
وفي عصرنا الحالي، نجد أن هناك زخما في البرامج الحوارية التي تُعنى بتقديم "تأريخا مشفوعا بشهادة أحد عناصر أو أطراف الحدث قيد البحث"، وفي أحد هذه البرامج ذائعة الصيت كانت هناك حلقات حوارية مع أحد الشخصيات المثيرة للجدل، وبإحدى الحلقات تطرَّق هذا الشخص لحدث مضى عليه أكثر من أربعة عقود من الزمان وكان هو شخصياً أحد أطراف هذا الحدث، وخلال حديثه ناقض بشكل شبه كامل حديثا له قبل سنوات بإحدى النوافذ المرئية، واستشعرت أن مثل هذه الشخصية لاينفع معها برامج تفتح الصناديق السود أو البيض !
وفي مُقدمة كتاب تاريخ الطبري "تاريخ الأمم والملوك"، كتب المؤلف ما يلي: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولامعنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا" (1).
وما زلتُ مع المقدمات؛ إذ سأنقل اقتباسًا من الورقة المقدمة لمؤتمر يختص بالتاريخ الشفهي؛ حيث كُتب فيها: "تقع الإشكالية المعاصرة للتاريخ الشفهي في السؤال الذي بدأ صوغه في الغرب أولا، بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهو: من يؤرخ وكيف يؤرخ للذين لا تاريخ لهم؟ (المقصود هنا: من ليس لهم تاريخ مكتوب) المقصود أي للذين عانوا وشردوا، وخضعوا للعذابات أو الذين قاوموا" (2).
وفي مقال سابق كتبتْ د. أمينة عامر: تمثل معايير البحث ومنهجية إجراء المقابلات إشكالية أخرى ذات علاقة مباشرة بمسألة الذاكرة؛ فلابد من طرح التساؤلات حول كفاءة ذاكـرة أولئك الذين يدلون بشهادتهم للتاريخ، وأيضًا المقارنة بين المصادر المكتوبة والشفهية، وعما إذا كانت المقابلة مصدرًا شفهيا، أم أنها في حد ذاتها تاريخ تفسيري أو تأويلي.
ومن المطروح للمناقشة في هذا السياق أنه ينبغي للمؤرخين المعتمدين على التاريخ الشفهي الانتباه إلى ثلاثة محاور واضحة وأساسية:
1- الدلالات اللغوية خلال المقابلة.
2- الدلالات الأدائية خلال المقابلة.
3- العلاقة أو الرابطة بين وعي الفرد والوعي الاجتماعي للمؤرّخ.
وهنا.. لا يُمكننا إغفال تأثير الثقافة والأيديولوجيا العامة السائدة في تشكيل وعي وذاكرة الفرد -سواء المتحدّث أو المتلقّي- (3).
التاريخ الشفهي مُرتبط بعدة علوم كالوثائق بأنواعها ومناهج البحث التاريخي، وعلم الرجال والاجتماع وعلم النفس، والدقة هي التي تعتبر مفترقَ طرق في هذا التاريخ الصعب تدوينه والالتجاء إليه، وكثيرا ما يتم استخدام هذا التأريخ بشكل لا يتسق والموضوعية؛ حيث يجير هذا التأريخ على تزوير حقائق عن أحداث وقعت وغموضها يغلب وضوحها؛ حيث يتم أخذ شهادات من أناس لا يتصفون بالثقة لأسباب الخوف أو الملاحقة الأمنية أو التقهقر الاجتماعي، أو حتى وجود أيديولوجية معينة تضع الشاهد تحت ضغطها النفسي؛ لذا من الصعب ممارسة هذا الأمر إلا بعد جهد عسير وتدقيق دقيق، وبعدها عسى أن تصل المصداقية لدرجة مقبولة ومعقولة، على اعتبار شبه الاستحالة للوصول لشهادة حيادية منصفة تماما بناءً على ما سبق ذكره.
وعلى أية حال، يبقى الخير في البشر ولو خليت خربت؛ لذلك في هذا المقال نستدرك معالم هذا العلم المتفرع عن علم التاريخ، ونشرح بتبسط ماهياته، ذلك لأنَّ الحديث عام حول هذا الأمر وليس خاصا لخصوصية معينة.