ريفي في جامعة السلطان قابوس (4- 5)

علي بن سالم كفيتان

في صبيحة ذلك اليوم الماطر، اتخذ أبي قرارًا أسعد الجميع وربما أراد من خلاله توديعي ومحو آثار الحزن لدى أفراد العائلة على سفري، فقد قررنا النزوح الى القطن (منطقة انتقالية بين الجبل والصحراء تقل فيها الأمطار نسبيًا)؛ وهو شكل من أشكال الرعي الترحالي لسكان جبال ظفار وباديتها، ففرح الجميع بالخبر. وعلى الفور جمّعنا الأدوات القليلة والمتاع البسيط من الثياب القديمة.

ذهبتُ أنا إلى السيارة الموقوفة في الطرف الآخر من الرابية، وأزحت عنها الطربال (غطاء بلاستيكي لحماية مكينة السيارة من الرطوبة والمطر)، وشغلتها ومن ثم عشقتها على الدفع الرباعي؛ فالمكان حول المنزل كان موحلًا؛ حيث يختلط الطين مع روث المواشي ويصبح المكان كبحيرة يصعب العبور من خلالها. قذف الشباب بكل سرور الأغراض في الحوض الخلفي وأردفنا أحواض الحيوانات وبضع جوانٍ من العلف، والسماء كانت تنهمر، واذكر أنني غطيت الحمولة بقطعة بلاستيك وربطنا بالحبال بشكل محكم، وقبل المغادرة: "أحضروا لي عجلًا صغيرًا فقد أمه قبل أيام"، فألحقناه بالحمولة واستقر تحت إحدى الاحواض. لقد كان خائفًا ويرتجف من البرودة والمطر، ومع ذلك آثر الصمت على الثغاء والصياح، وعندما انطلقتُ كنتُ أقفُ بين الفينة والأخرى للاطمئنان على سلامة الحمولة، وخاصة ذلك العجل اليتيم المندس بين الأغراض. كان الشارع الترابي موحلًا وزلقًا، وكنت أستمتع بالقيادة في المطر وإلى جانبي أختي الصغرى بنت الأربعة أعوام تقريبًا، وإلى جوارها بنت أخي في نفس السن تقريبًا؛ فالكل يريد الخلاص من الضباب والمطر الذي لا يُطاق والأوحال التي كانت في كل مكان، لقد تحولت الأرض إلى إسفنج ممتلئ عن آخره بالمياه؛ فالخريف يكون كريمًا في السفوح الموجهة لبحر العرب.

لقد ظعنت آخر أسرة في القرية الحجرية وتركت خلفها زخات لا تنتهي وضبابًا لا يعرف السكون، وحسيس أشجار الزيتون، وأكوام ثمار التين المتكدسة تحت الأشجار في أغسطس الماطر، لقد ودعنا زنبور المغرب؛ فهو ساعتنا التي تنبئنا بغياب النهار وحلول الليل، وهجرنا أكوام الطين التي نتسابق إليها كل صباح لجمع الفطر، غادرنا أرض الضفادع التي لا تهدأ على تجمعات المياه وفي الينابيع التي تفجرت في كل مكان، ولن تعود وجبة الكوم (نبات يشبه العنب تطبخ أوراقه وتؤكل) على مائدتنا بعد اليوم، ولن نضطر لتجفيف الحطب؛ فالقطن مكان جميل بين المطر واللامطر، هناك ستجد بقعًا يابسة خلف الأشجار المعمرة، تستطيع حتى النوم فيها في هذه الأرض الفسيحة، وبين هذه والوهاد الجميلة ينقشع الظلام فيزيل كآبة الضباب التي ترسخت فينا منذ بداية الخريف. وفي نهاية النهار، اكتمل وصول المحمل؛ فالجميع خلف القطيع وحوله حتى دخل قريتنا الانتقالية وبيتنا الصغير المتواضع. لقد هب الجميع لنجدتنا والترحيب بنا والمساعدة في إدخال العجول والأبقار للزرائب. لن أنسى ما كانت تفعله جدتي حرفيش بنت محمد من أعمال جليلة ذلك النهار؛ فهي من أحضر الأكل كما أدخلت المواشي وأنزلت الأغراض معنا وهي مبتسمة وضاحكة مرددة: "يا حي بكم بيت أجهام"، رحمها الله رحمة الأبرار الصالحين.

كان يومًا حافلًا وما إن سكن الجميع، حتى لملمتُ أغراضي وذهبتُ إلى أبي مستأذنًا بالنزول إلى صلالة؛ فرحلتي المرتقبة إلى مسقط ستكون في تلك الليلة. أعطيتُ مفتاح السيارة لأخي أحمد وبذلك استلم هو زمام القيادة، بينما ذهبت أنا راجلًا إلى الشارع العام للحصول على عبرية... لاحقتني أمي إلى مكان بعيد ومعها كوب حليب وهي تردد بلهجتها الريفية الحانية "أبري قطع أريق" أنت من الصباح ما أكلت شيء، ودست في يدي مبلغًا من المال، قائلة: "هذا لتستعين به على السفر". أودعتُ المبلغ في جيبي ويممتُ نحو الشارع، تجنبتُ النظر إلى الخلف؛ كي لا أحزنها، وآثرت أن أكون رجلًا قويًا رغم انكساري من الداخل وتسابق الدموع إلى مُقلتي، لم أمسحها إلا بعد أن تأكدت أن أمي باتت لا تراني، وأكملتُ السير راجلًا على الطريق الترابي، إلى أن وصلت الشارع العام. كان الوقت قبل العصر بقليل. وقفت متسمرًا على قارعة الطريق حتى أتت سيارة لقوات الفرق الوطنية يسوقها رجل متوسط العمر لا أعرفه ولهجته بدوية، وقال لي: "تفضل"، دخلت عنده في الكبينة الأمامية وانطلقنا. كان لديه بسكوت فتشاطرنا الزاد والسوالف، فسألني عن نفسي وأخبرته فأبدى اهتمامًا بالغًا لمعرفته بأبي، وقبل أن ينزلني في عوقد، قال لي: "أنا عمك سعيد بن سالم بن سلمُه من بيت غواص".. لقد كان رجلًا لطيفًا.. وللحديث بقية.