مقهى.. وقهوة.. وشاعر مهمل!

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

"لا يزال الشعر عاطلاً حتى تزينه الحكمة، ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر" أحمد شوقي.

*****

في الشعر كما في بقية أصناف الأدب الأخرى هنالك مبدعون مهمشون ولم تسلط عليهم الأضواء، ولم يعرفهم الكثير، ربما همشوا لعدة أسباب ليس هنا المجال لعرضها أو شرحها، وتوجد دراسات بحثية عديدة حول هذا الأمر، و من أشهر الشعراء المهمشين الشاعر أبو الشمقمق في العصر العباسي، وفي عصرنا المعاصر الشاعر الأردني عرار وغيرهم الكثير.

تذكرت ما سبق حين قادتني الصدف البحتة، لكي ألتقي بأحد الشعراء المهمشين الذين يعانون من عدم الاهتمام؛ حيث حدث ذات مساء وبأحد محطات بيع القهوة الساخنة، أن حصل لقاء مع أحد الشعراء المهمشين، الذي لم أعرفه بادئ الأمر، وكان لقاء أشبه بالعابر إنما حمل أفكارًا وكلمات لا تُنسى، كالعادة مع أي عميل جلست في المقعد الفارغ وطلبت احتساء قهوة ساخنة (أقول ساخنة لأننا في زمان انتشرت فيه القهوة المثلجة!) أثناء الجلوس وصل أحد العملاء وجلس بالمقعد المقابل بنفس الطاولة التي أجلس عليها، وكان الأمر مفهومًا وعاديًا جدًا؛ إذ كان المقعد المقابل في طاولتي هو المقعد الوحيد الفارغ في قاعة المقهى الممتلئة بالبشر.

كنت أتصفح إحدى الصحف الورقية، وكان يضغط أزرة هاتفه النقال، وصلت قهوتي ولما بدأت بارتشافها، أثناء تصفحي إحدى الصحف، لمحته يناظرني وعلامات الاستغراب بادية، بادرته بابتسامة: تفضل القهوة. ابتسم واعتذر بسبب انتظاره النادل ليحضر قهوته، ثم سألني باستغراب: هل مازلت تقرأ الصحف الورقية؟

قلت: ولا أصبر عنها وهي عندي أهم من رشفة الفنجان هذه!

قال: غريب أمرك.. هل ما زلت تدفع مائة فلس لكل صحيفة تقرؤها يوميًا؟

قلت: (كنت أحدثه بابتسام) ليس بهذا الشكل، إنما الأكيد أنني أشتري 3 صحف يومية أقرأها صفحة صفحة يوميًا.

قال والغرابة تملؤه: أها.. يبدو أن لا سطر فاتك ولا صورة!

قلت: ما ذكرته ليس بعيدًا عن الحقيقة!

اعتدل في جلسته، ويبدو أن الحوار راق له، وسألني بمباغتة: هل تقرأ الشعر في الصحف؟

قلت: وحتى مقامات الحريري أقرؤها حرفًا حرفًا.

قال: أي على وزن: تأكلها حبة حبة!

قلت: Yes (بالإنجليزية).

ثم بدا وكأن الموضوع اتجه للحديث عن ضيق يعاني منه الأخ الجار بنفس الطاولة، وكأني ضربت على وتر حساس؛ حيث أخذ يتحدث عن الشعر والشعراء وبأن الشعر أهمله الجميع ولم تعد للشاعر تلك الهالة والهيبة والحضور، وكل ما هناك أنصاف شعراء تنشر لهم في الصحف فقط لزوم تعبئة الفارغ من الصفحات، وبأن هذا الزمان لم يعد صالحًا للشعر ولا لأهله الشعراء!

سألته: هل أنت شاعر؟

قال: نعم.. وألفت أكثر من 400 نص شعري، ونشرت باسمي وبأسماء مستعارة ولا يعرفني سوى اثنين وأنت ثالثهما!

أنا: من هما الاثنان أصحاب الحظ السعيد؟

هو: صديقي العربي متولي الذي يطبطب على كتفي يوميًا ويواسيني ويقول إن هذا الزمان ليس زمنك، وشهيد الاسلام صديقي الآسيوي الذي يعتبرني شاعرًا عظيمًا وبأني لو نشرت أشعاري في صحف بنجلاديش سأكون شاعر دكا الأول!

قلت له: يبدو أن الأخ متولي يعتبرك من نخبة العظماء كامرؤ القيس وجرير والمتنبي، طبعًا مع افتراض تذوقه للشعر، فقال: لا. هو يتذوق الإسمنت أكثر من الشعر؛ حيث إنه معلم مساح للجدران! أما الآسيوي كان الله في عونه يبدو أنه ابتلي بك (قلتها وأنا اضحك).

نظر لي وتحدث زاجرًا: أنت لا تعرف الشعر ولا تقدر الشعراء، مثلك كمثل هؤلاء الذين يرتشون القهوة ولا يعلمون أهي قهوة أم مشروب آخر!

قلت: أحلم يا صديقي ويا جاري العزيز في نفس الطاولة، الأمور مجرد اختلاف بوجهات النظر، والموضوع كله من أوله لآخره مجرد جلسة على طاولة مقهى قد لا نرى بعدها بعضنا مطلقًا، هوّن عليك ولا داعي للغضب من اجل شعر لا أحد سمعه سوى متولي وشهيد الإسلام!

ارتشف قهوته، وكنت أنظر إليه باستغراب، وأتذكر أنه ليس كل ما يلمع ذهبًا، وتذكرت أحد الذين يلقبون زورًا وبهتانًا بأنهم شعراء، وقد انتشرت أشعارهم في كل مكان وتغنى بها المطربون، بينما لايعرفون الفرق بين الهجيني والمسحوب، ولم تمر عليهم طريقة وزن الأبيات لضبط القصيدة، وبارك الله بالرصيد وبالمال، والفلوس اللي تجيب العروس والقصائد!

كم من أصحاب المواهب اُهملوا؟ وكم من الشعراء لا أحد يعلم عنهم؟ وكم من الكتاب ذوي القيمة لا أحد يقرأ لهم. وكم من المؤرخين الأمناء لا أحد يهتم بهم؟ وهلم جرا.. وصدق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في قصيدته الرائعة:

يا شيخ.. هذا زمان كله أنعامي

الذيب جايع.. وشبعانه حصانيها!

وعلى فكرة الشعر عند العرب هو فاكهة الحديث، والعربي بطبعه شاعر، فإن لم يقرض الشعر فهو متذوقه، رجالًا ونساءً، سواءً في الشعر الفصيح أو اللهجات العامية، وأعتقد ليس غريبًا أن تجد في كل عائلة عربية شاعرًا، ولا شك أن جاري العزيز بالمقهى لم يعرف كيف ينشر أشعاره، ففي وقتنا الحالي كل منافذ النشر مقدور عليها، وتكفي وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تشهر الشاعر أكثر من الصحف الورقية، إنما يبدو أنه ما يزال يحلم بالنشر في صحيفة ورقية، وكأن الزمان ما زال يقف مع تلك الصحف التي يبدو ألا مستقبل لها، وأصبحت وكأنها أحلام الجمهورية العربية بالديمقراطية المزعومة، فلا هي حققت الديمقراطية ولا هي حفظت وجودها بسلام (أقصد عدد من جمهوريات الربيع العربي). وصاحبنا جار المقهى نصحته بأن يتجه لوسائل التواصل لعله يجد قراء إضافيين لمتولي وشهيد الإسلام، إلا أنه يبدو في وادٍ، ونصيحتي في وادٍ آخر!

على كل حالٍ، كان كريمًا معي ودفع الحساب، بكرم شديد؛ حيث لم أعلم بدفعه للحساب إلّا عندما نويت المغادرة؛ حيث أخبرني محاسب المقهى أن الحساب واصل!

يبدو بعد هذه الهدية غير المباشرة (طبعًا ليست رشوة) سأكون ثالث جمهور هذا الشاعر المهمل، وكم من مهمل يعاني، وكم في الحياة من مظلومين!