الأزمات.. تحديات وفرص ودروس (1)

 

د. عبدالحميد إسماعيل الانصاري

 

نظم المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية ندوة بعنوان "العالم العربي أمام التحديات العالمية الجديدة" في مراكش بتاريخ 8 يونيو 2022، حضرها جمع من المفكرين والباحثين الذين قدموا أوراقًا ناقشت هذه التحديات بالبحث والتشخيص، وقدموا توصياتهم.

وشاركتُ في هذا الملتقى العاشر لتحالف مراكز الفكر والثقافة العربية بورقة حول: "كيف يمكن تحويل الأزمات إلى فرص لائتلاف المجتمعات العربية حول رهانات مشتركة؟ كيف يمكن تعبئة جميع مكونات المجتمعات العربية؟". فيما يلي خلاصة ورقتي.

الأزمات التي تشهدها المنطقة، تشكل تحديات علينا مواجهتها باستنفار جهودنا وحشد طاقاتتا. طبقًا لخالد الذكر أحمد شوقي:

وما استعصى على قوم منال // إذا الإقدام كان لهم ركابًا

فالأزمات تولد الفرص، وعلينا استثمارها فيما يؤلف بيننا ويقوي صفوفنا ويحقق آمالنا، صنوف الابتلاء والمحن تجعلنا أقوى وتعلمنا دروسا ثمينة تعيننا على مواجهة المتغيرات، وتجاوز المعوقات استشرافًا لمستقبل أفضل لمجتمعاتنا، ويقول تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة"؛ إذ إن الابتلاءات جزء من هندسة الحياة ولولاها ما استنفرت البشرية طاقاتها وتجاوزت.

أمامنا اليوم تحديات جديدة تتمثل في: جائحة كورونا التي استطاع العالم تحجيمها بفضل تعاونه، والغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الخطرة على مختلف دول العالم، لكن التحديات الجديدة يجب أن لا تنسينا التحديات القديمة والتي لم نفلح في علاجها حتى اليوم، وهنا أستحضر أبياتا من قصيدة أبي الطيب المتنبي:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا // وعناهم من شأنه ما عنانا

وتولوا بغصة كلهم منه // وإن سر بعضهم أحيانا

إلى أن يقول :

كلما أنبت الزمان قناة // ركب المرء في القناة سنانا

هكذا شأن الإنسان مع الزمان كلما فتح للإنسان طريق للخير والتقدم أساء استغلاله وحوله إلى أداة للدمار.

ومداخلتي معنية بالتحديات المزمنة:

  1. التحدي الداخلي: وعجزنا المزمن عن "تنمية الإنسان"، وهنا لسمو الشيخ محمد بن راشد تشخيص دقيق يتمثل في أن منطقتنا العربية تمر بتحديات ضخمة ولن ندير ظهرنا، والعالم يواجه تحديات كبيرة: الإرهاب، والحروب، والهجرات، والحل الحقيقي هو في التنمية (تنمية الإنسان) وتعليمه وتثقيفه ومساعدته على بناء مستقبله

إن المعضلة الحقيقية للعرب عجزهم البنيوي عن بناء الإنسان، ونحن لن نخترع العجلة من جديد. الحلول موجودة، طبقتها الأمم الأخرى وتجاوزت، أبرزها:

أولًا: تعزيز قيم "المواطنة" بما يحصن كيان "الدولة الوطنية" في مواجهة مشروعات التفكيك التي تنفذها قوى خارجية وميليشيات وتنظيمات داخلية مدعومة من هذه القوى، كما إن في تعزيز هذه القيم صيانة لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا ومجتمعاتنا من الصراعات المذهبية والطائفية والقبلية.

وعلينا تفعيل هذه القيم على أرض الواقع المجتمعي بحيث لا يبقى أي مسوغ لأي مكون مجتمعي للشكوى من الإقصاء عن المشاركة السياسية أو التهميش في التمثيل النيابي أو الحرمان من تولي المناصب القيادية أو الشعور بالغبن الاجتماعي.

ولا جدوى من التغني بالوطنية، ولاقيمة حقيقية للدساتير التي تنص على مبدأ "المواطنة" معيارًا للحقوق والواجبات، إذا بقيت نصوصًا مجردة ومعطلة، بعيدة عن حقائق الواقع المجتمعي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع؛ لأن النتيجة تعميق التناقض بين هذه القيم والممارسات الواقعية، ومن ثم إضعاف ولاء المواطن مقابل تعصب الفرد لقبيلته وطائفته وجماعته، كما يقول- بحق- المفكر البحريني المعروف د محمد جابر الأنصاري -شفاه الله-

علينا تعزيز قيم المواطنة باعتبارها الرابط الجامع الذي يعلو فوق كل الانتماءات والروابط الأخرى عبرتفعيلها بآليات عملية في الساحة المجتمعية حتى لاتبقى مجرد قيم فوقية معلقة في الفضاء المجتمعي.

ثانيًا: التحصين الفكري والديني للشباب العربي، تجاه أمراض الغلو والعنف كونه قضية "أمن وطني". ومواجهة الفكر الظلامي تتطلب استراتيجية وطنية تشارك فيها كافة هيئات الدولة الثقافية والتعليمية والدعوية ومنظمات المجتمع المدني على المستوى الوطني والعربي والدولي؛ فهذا الفكر شديد الخطورة وهو عابر للأوطان يتطلب تعاونا جماعيًا .

ثالثًا: تعزيز مفاهيم "العيش المشترك" وترسيخها في بنية "التركيبة المجتمعية" بكافة طوائفها وأطيافها وأديانها ومعتقداتها؛ إذ إن الدين لله تعالى، وهو الحاكم بين عباده "ثم إليّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون"، أما الوطن؛ فللجميع بلا تمييز أو تفرقة أو تهميش لأي مكون مجتمعي.

رابعًا: تجديد الخطاب الديني، بما يحصن البيئة العربية من أوهام "السراب" المتمثل في إحياء "نظام الخلافة" العابر لحدود الأوطان، طبقًا لما شخصه الدكتور جمال سند السويدي في كتابه "السراب" ووضّحه الشيخ عبدالله بن بيه: "نقول لهؤلاء الذين يقتلون أنفسهم من أجل خلافة، أو تصور، أو تخيل لا وجود له أصلًا في التاريخ؛ ففي الممارسات التاريخية بعد القرن الأول لم يجتمع المسلمون في دولة واحدة".

وللحديث بقية...

** كاتب قطري