سوق الاستشارات العالمية بعد "كوفيد-19"

 

مسلم سعيد مسلم مسن

من المعلوم أن دول منطقة الخليج لها تعاملات وثيقة مع شركات الاستشارات العالمية منذ عقود من الزمن وفي كافة المجالات القانونية والمالية والاقتصادية والهندسية وبعض المجالات الاستراتيجية على وجه الخصوص؛ فقد أصبحت المنطقة إحدى الأسواق المهمة لتلك الشركات، وهذا تزامن مع بدايات التجارب التنموية لاقتصاديات المنطقة عندما كانت القدرات والممكنات البشرية والإدارية متواضعة، واستمر مع فترات الازدهار الاقتصادي والتوسع في بناء الرؤى الاقتصادية والخطط التنموية ومشاريع البنية الأساسية (Mega-Projects)، بل وأصبح لشركات الاستشارات ذات الصبغة العالمية مقرات ومكاتب تمثيل ومستشارين محليين في دول المنطقة.

هذا المقال يركز على محورين؛ الأول: يتعلق بسوق الاستشارات العالمية في منطقة الخليج بعد تراجع الجائحة الصحية "كوفيد-19" من حيث النمو والحجم وشكل التعاقدات ونوعية الاستشارات المطلوبة من حكومات المنطقة. أما المحور الثاني فيتطرق إلى شركات الاستشارات محليا والخبراء المستقلين والدور المنتظر.

وتشير البيانات التابعة لسوق الاستشارات في منطقة الخليج (الصادرة من Source Global Research) إلى النمو المتصاعد منذ الأزمة المالية (2008 -2009) إلى أن بلغ في 2012 حوالي 1.5 مليار دولار، وصولا إلى 3.2 مليار دولار في 2019م؛ أي أن حجم هذا السوق قد تضاعف تقريبا خلال الفترة (2012- 2019) قبيل الجائحة الصحية. كما يشير نفس المصدر في تقريره الصادر في 31 مارس 2021م حول حجم القطاع بعد تأثيرات الجائحة في منطقة الخليج إلى أن القيمة قد تراجعت بحوالي 400 مليون دولار ليصل إلى 2.7 مليار دولار (متوقع) في 2020، إلّا أن الأرقام المتوقعة لعام 2021 ترجح استعادة زخم النمو لحجم السوق إلى سابق عهده قبل تأثيرات الجائحة. وفي أحدث تقرير (Source Global Research) حول توقعات حجم سوق الاستشارات للعام المالي 2022م تشير البيانات إلى أن نسبة نمـو إيرادات القطاع ستزداد تواكبا مع بدء تنفيذ مشروعات الرؤى المستقبلية لدول الخليج- بعد انحسار تأثيرات الجائحة- وبالتزامن مع تظاهرات عالمية مثل كأس العالم 2022.

المؤشرات السابقة تدل على تنامي حجم سوق الاستشارات رغم التذبذب المنطقي منذ بداية الجائحة الصحية، لكن التوقعات تؤيد استمرار النمو من حيث حجم السوق والإيرادات، الأمر الذي يؤشر إلى أنه لا يوجد على أرض الواقع تراجع محسوس لأنشطة الشركات الاستشارية أو تقليص لدورها أو -على الأقل- إعادة صياغة لشكل أو نوعية الإستشارات، فما يتضح جليًا هو أن تلك الشركات ما زالت تتولى وضع الرؤى المستقبلية والاستراتيجيات، وتتولى الخدمات الاستشارية لمشاريع البنية التحتية وفي مجالات دراسات الإستكشاف والتنقيب في قطاعي النفط والغاز، كما توظف الحكومات خبرات تلك الشركات في تنظيم التظاهرات السياحية والعالمية مثل "إكسبو" والمسابقات العالمية.

كذلك على مستوى البرامج التنفيذية يستعان بالخبرات الاستشارية العالمية الفردية والمؤسسية في التقييم وبناء مؤشرات الأداء والتقييم، وهذا يؤكد بأن الاستعانة لا تتم فقط على المستوى الإستراتيجي فقط، وإنما تتوغل حتى على المستويات التنفيذية. بالتأكيد أنه لا يمكن الإستغناء كليا عن دور تلك الشركات ولكن هل فعلا نحن بحاجة إلى التوسع المفرط على كافة الصعد أم أن الأمر يحتاج إلى ترشيد؟

إن البديل المفترض للشركات الاستشارية العالمية هو الشركات والمكاتب والخبراء المحليين المستقلين. في حقيقة الأمر يتضح أن البيانات شحيحة وغير موثوقة حول حجم هذا القطاع أو نصيب هذه الكيانات من مجمل مخصصات الاستشارات بأنواعها ولكن الواقع يشير بأن معظم الخدمات الاستشارية المسندة محليا تتركز في الشق القانوني والمحاسبي والإداري؛ أي أنها تستهدف التعاقدات ذات الكلفة الأقل أو المتوسطة في أحسن الأحوال، بينما تذهب حصة الإستشارات ذات القيمة التعاقدية العالية لصالح الشركات العالمية. فواقعيا ينحصر دور المكاتب والشركات الوطنية والخبراء الوطنيين المستقلين من خلال شراكات محدودة مع الشركات العالمية (outsourcing) أو عبر ما تستوعبه الشركات العالمية من كوادر وطنية يعملون كموظفين في الفرع.

حقيقة الأمر أن التوسع في الاستشارات والإسناد لشركات عالمية وبمبالغ ضخمة لا بُد وأن يكون محل مراجعة وتقييم خلال المرحلة القادمة في منطقة الخليج؛ فالمخرَج أو الناتج لبعض الاستراتيجيات المنمقة و الرؤى الجميلة يمكن وصفه بأنه مكرر أو معلب وقد لا يقابل- في أغلب الأحيان- الحلول المفترضة للتحديات التنموية وإن كان لا بُد من التعامل، فينبغي أن لا يتعدى مجالات التكنولوجيا النوعية والذكية (know-how)، تلك المجالات التي لا تتوافر بها قدرات وطنية استشارية مناسبة، أما المجالات الإدارية والمالية والاقتصادية فنعتقد بأن المنطقة قادرة من خلال مؤسسات القطاعين العام والخاص على تحديد ما تحتاجه. ونسمع في أحيان كثيرة عن مناقصات استشارية مليونية تسند إلى شركات استشارية عالمية، وعندما تسند لذراع محلي سواء خبير مستقل أو مكتب أو شركة متخصصة فإن الكلفة تنخفض كثيرًا، والمُنتَج إما أن يكون في نفس المستوى أو ربما أفضل من ناحية فهم واقع وطبيعة متطلبات الاستشارة ونطاقاتها المحلية (scope of work).

وفي الختام.. إن تنامي حجم قطاع الشركات الاستشارية العالمية في منطقة الخليج ورجوعه إلى مساره التصاعدي بعد الجائحة وفق الأرقام المعلنة يعني أن هناك فرصًا قائمة لبناء قدرات وطنية مع استمرارية عدم وجود تقييم لمخرجات تلك الاستشارات، وهذا يؤسس إلى ضرورة العمل على تحقيق مسارين متوازيين، يضمن المسار الأول توطين الخبرة في مجال الاستشارات بأنوعها، فيما يعمل المسار الثاني على تقييم مخرجات الاستشارات العالمية وتعزيز المساءلة لضمان جودتها مع حتمية عدم التوسع المفرط في مجالات الاستشارات وترشيده من الأساس.