روحك.. البعد الغائب في شخصيتك

 

عباس آل حميد

 

وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، فقد ارتفعت معدلات الاكتئاب في الولايات المتحدة في عام 2021 إلى 32.8%، مما يؤثر على واحد من كل ثلاثة بالغين أمريكيين، كما وجدت إحصائيات عام 2020 أن 21% من البالغين الأمريكيين يعانون من أمراض عقلية ونفسية، وأن واحدًا من بين كل ثلاثة من اليافعين الأمريكيين (بين 18 و25 عامًا) يعانون من أمراض عقلية ونفسية.

وتكشف الدراسات الحديثة أن ما نسبته 80% من آلاف الأفكار التي تنتابنا يوميًّا سلبية، وأن 95% منها أفكار متكررة تعيد نفسها يوميًّا، وأن 97% من مخاوفنا لا أساس لها، وإنما هي ناتجة عن منظور متشائم للحياة. ﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ﴾ [ الإسراء: 100]، إذًا، تخيل ما يحدث لعقلك وروحك وحياتك كلها يوميًّا!

إن دماغك يغلي باستمرار بالبؤس، مثل المايكروويف، وينعكس في شكل توترات وقلق واضطرابات نفسية، ويتحول بمرور الوقت والتكرار إلى قناعات راسخة ومعتقدات وخرائط ذهنية ترى من خلالها الواقع وتتفاعل معه، وبذلك تفسد روحك، وتدمر عقلك وجسمك وحياتك كلها.

هذه المعتقدات والخرائط الذهنية السلبية والمؤذية تستقطب كل الأحداث التي تمر بنا في حياتنا، بل تحول الأحداث الجيدة منها -لا شعوريًّا- إلى تجارب سيئة، لتزداد حياتنا بمرور الوقت سوءًا وقتامة وعذابًا. ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [ الأحزاب: 73].

وخلاصة القول إنَّ الإنسان إذا تُرِكَ ونفسه فإنه سيتجه تلقائيًّا إلى تعذيب ذاته ما لم يتبع برنامجًا واعيًا ومنظمًا يحميه ويرتقي به، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. [الشمس: 7 - 10].

يخبرنا القرآن في هذه الآيات بأن أولئك الذين يراعون البعد الروحي (البعد الرابع) من شخصياتهم (كما عرفه "كوفي" في كتابه: العادة الثامنة) والفِطَر المغروسة فيهم هم ذوو النفوس المطمئنة الراضية، وإنما يحدث الخلل في الإنسان بشكل تلقائي عندما يغفل عن هذه الفِطَر رغم أهميتها في الحفاظ على إنسانيتنا.

والأمر نفسه يسري على الأبعاد الإنسانية كافة، فإذا راعيت -مثلًا- جسدك واتبعت الإرشادات الصحية فإنك ستنعم بصحة ولياقة جيدة وعمر مديد وسيعطيك جسمك أفضل ما لديه، ولكن إن أهملته فإنه سيترهل ويصاب بالأسقام والأمراض المختلفة، ويظل يعذبك إلى أن تغير من أسلوب تعاملك معه.

تأمل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19 - 22]، ثم الآيات التالية التي ذكرت الممارسات والأفكار التي إن تبنَّاها الإنسان جنَّبَ نفسه أن يكون من الهلوعين الجزعين.

تحدثنا الآيات وكأن الإنسان بطبيعته كائن ذو نزعةٍ إلى الهلع والجزع وعموم الأفكار السلبية إن هو لم يراع في وجوده البعد الروحي من شخصيته. وقد خُلِقَ الإنسان على هذه الجبلة من أجل مصلحته هو، حيث إن غفلة الإنسان عن البعد الروحي في وجوده وعدم مراعاته ورعايته يفقدانه إنسانيته ليصبح حيوانًا تحركه غرائزه وشهواته وحاجاته، وبذا يفقد أعظم شيء ميَّزه الله به، وبه استحق أن تسجد له الملائكة!

ولأن الله يشفق على الإنسان من خسران ذاته وإنسانيته، فقد خلقه بهذه الطبيعة السلبية لتعذبه وتؤرقه وتدفعه للرجوع إلى الفطرة والوجدان الإنساني كلما انحرف، فهي لا تعمل كمؤشرات ذاتية في الإنسان فحسب، وإنما هي قوة مانعة تصده عن الانحراف عن الفطرة وعن الهدف الذي خُلِق من أجله، وليكون الأذى والتوتر والعذاب الذي يعاني منه الإنسان عند انحرافه عن مسيرته الطبيعية دافعًا له للرجوع إلى ذاته وحمايةً له من الانغماس في حيوانيته، قال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة: 21].

تعليق عبر الفيس بوك