من لا يملك غذاءه لا يملك قراره!

 

محمد بن حمد البادي

mohd.albadi1@moe.om

 

منذ بزوغ فجر النهضة المباركة، بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- نجحت السلطنة في أن تكون من أوائل الدول على مستوى العالم، التي أسست منظومة أمن غذائي رصينة وقوية، والتي كان من أبرز مؤشرات نجاحها وتميزها؛ أن المائدة العمانية لم تكد تخلو يومًا من السلع الغذائية الأساسية، وذلك رغمًا عن الأزمات والتقلبات السياسية والاقتصادية والمناخية التي كانت تعصف بين الحين والآخر ليس بالسلطنة وحدها؛ بل بدول العالم أجمع.

كما إننا لم نشهد يومًا شُحًّا في المواد الغذائية، ولم نلحظ خلو رفوف المحلات التجارية من السلع الغذائية الأساسية طيلة العقود الماضية، فضلاً عن ذلك وجود مخزون غذائي كافٍ في أوقات الطوارئ والأزمات، وهذا دليل واضح بأن منظومة الأمن الغذائي في السلطنة كانت تحظى باهتمام كبير من لدن السلطان الراحل ـ طيب الله ثراه- ثم جاء من بعده حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ليسير على نهجه ويترسّم على طريق الخير خطاه.

ولكن كما يُقال دائمًا "من لا يملك غذاءه لا يملك قراره"؛ فالمتتبع للأمور سيجد أن معظم ما يوضع على المائدة العمانية ما هو إلا أغذية مستوردة، فنكاد لا نجد للمنتجات الزراعية أو الصناعات الغذائية العمانية إلا حضوراً خجولاً جداً وسط الكم الهائل من المنتجات الزراعية والغذائية القادمة إلينا عبر الحدود.

لقد كان الإنسان العماني منذ القدم يمتهن- إلى جانب مهن التجارة والصناعة والرعي وصيد الأسماك- مهنة الزراعة؛ فلا يأكل إلا مما أنتجته أرضه، ولم يكن يستورد غذاءه في حاويات مبردة، ولا يعرف المأكولات المعلبة الممزوجة بالمواد الحافظة؛ بل كان مشمّرًا عن ساعديه ليُمهّد أرضه للزراعة بنفسه؛ فيحرثها بالمسحاة والمرضمة، ثم يسقيها بالزاجرة والمنجور والرشا، وبعدها يحصد المحاصيل بالجاز، ليضع الغلة في القفير والمزماة والمخرافة والسمّة والعزاف والخصف والهبّان والقربة والسعن والعكّة والمزود، وغيرها من الأدوات الكثيرة التي انقرضت، وغابت مسمياتها عن أذهان الكثيرين من جيل السيارات الفارهة والغرف المكيفة والوظائف المكتبية والكراسي المخملية؛ واختفت تمامًا، ولن نجدها إلا ربما في المتحف الوطني العماني!

أما اليوم؛ وسعيًا من الجميع وراء مدنيّةٍ زائفةٍ وحضارةٍ برّاقةٍ؛ نعيش وضعًا لا يسر أحد، فنرى المزارع العماني يترك أرضه الزراعية تمامًا، إلا النذر اليسير منهم ممن عرف قيمة الأرض، والذي كان أحسنهم حالًا ذلك الذي خرج منها ليحل محله العامل الوافد، يجني محاصيلها الوفيرة؛ ويستفيد من خيراتها الكثيرة، بينما رضيَ هو بالفتات القليل.

ومما لا شك فيه أن هذا الوضع غير السويّ كان له آثار سلبية كبيرة انعكست على منظومة الأمن الغذائي، فعلى أقل تقدير إذا أردنا رأس بصل أو رأس ثوم أو بيضة- وهي أبسط المنتجات وأسهلها- تهافتنا إلى دول الجوار أو الدول التي اهتمت بالإنتاج الزراعي أو الغذائي، هل أصبحنا عاجزين عن توفير أبسط احتياجاتنا من المنتجات الغذائية؟

إنّ ما نشاهده خلال هذه الأيام من أوضاع عالمية متقلبة على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية وغيرها؛ يُحتّم علينا تبني توجهاً جاداً نحو تعزيز منظومة الأمن الغذائي في السلطنة، وذلك من خلال إنشاء مصانع عملاقة للصناعات الغذائية بمختلف مسمياتها تحقق لنا الاكتفاء الذاتي؛ لتشمل الصناعات الزراعية والحيوانية والسمكية ومنتجات الألبان، لتكون قادرة على رفد أسواقنا المحلية بكافة احتياجاتنا الغذائية دون نقص؛ وتغنينا عن الاستيراد الدائم، وتحقق لنا تعديلًا إيجابيًا في الميزان التجاري لتكون فاتورة التصدير أعلى من فاتورة الاستيراد، وتوفر لنا وظائف كثيرة ربما تساهم في حل مشكلة الباحثين عن عمل، وما شركة مزون للألبان ومزارع النجد ومشروع المليون نخلة وغيرها من المشاريع التي تدعم السلة العمانية للغذاء؛ إلا دليل واضح على قدرتنا على تحقيق نجاح منقطع النظير في هذا المجال.

ويجب أن تتضافر جهود مختلف الجهات الرسمية والشعبية من أجل إعادة المزارع العماني إلى أرضه؛ نثير فيه مشاعر حبه لهذا الوطن، ونحرك مشاعر ودّه القديم للزراعة، نشجعه ونأخذ بيده ونمهد له الطريق ونذلل له الصعاب؛ ونقدم له الدعم اللازم لينتج لنا أجود المحاصيل الزراعية من أرضنا الطيبة، ولن يكون ذلك صعبًا أو مستحيلًا في ظل توافر المعارف والخبرات التي تتضاعف يومًا بعد يوم؛ إلى جانب وجود التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة التي أصبحت جزءًا أصيلًا ليس في الزراعة أو الصناعات الغذائية فحسب؛ بل في معظم مجالات الحياة.