أنيسة الهوتية
بعد الإفطار الصباحي ليوم الجُمعة ركضنا أنا وإخوتي إلى الصالة الصغيرة وفتحنا صندوق العجائب الفضي، إنها ساعة العروض السحرية التي كانت تُبث على تلفزيون عُمان، وفي ذلك اليوم شعرتُ بأن العرض مُملٌ!
إنهُ رجلٌ عجوزٌ هزيل بسبلتي شاربين أبيضين وكأنهُما جناحان لطائر يقفُ على أنفه! يركب حصاناً هزيلاً أو لرُبما حمارا، مُمسكاً بيده عصى مُهترئةً ويتخيلُ نفسهُ فارساً يركضُ في الحقول بحصانٍ قويٍ مُتدرب على المعارك، ويتخيلُ أنهُ يُحارب ويقتل التنانين مُتعددة الرؤوس والعمالقة والوحوش التي كانت موجودةً فقط في رأسه! فيُحاربُ طاحونةً ويُعارك شجرةً أو يُقبلُ بقرةً ويسبُ الرياح التي يظنها أنفاسُ التنانين العملاقة!
نعم، إنهُ "دُون كيشوت" بطل الرواية التي سُميت على اسمه وكتبها الروائي والكاتب المسرحي الإسباني ميغيل دي سيرفانتيس سافيدرا باللغة الإسبانية ما بين عامي 1605م و1615م؛ أي خلال عشرة أعوامٍ، وتُرجمت إلى 60 لغةً ولاقت نجاحًا مدويًا حول العالم، وكاتبها لم يتلقَ العلم ولكنه كان قارئاً نهماً ومن خلال قراءته تعلم أداب الكتابة وأتقنها.
و"دُون كيشوت" اسمٌ ألقاهُ على نفسه بطلُ الرواية وهو "ألونسو كيكسانو" صاحب مزرعة يمتلك من المال ما يكفيه ليعيش في غنى، فقرر الابتعاد عن العمل والاستمتاع بحياته، ثُم انجرف إلى القراءة حتى أدمنها، ولكنهُ أدمن قراءة الروايات والقصص الخاصة بالفُرسان والأميرات فقرر أن يُصبح فارسًا مثلهم، وبدأ عقلهُ الغارق في عالم القراءة بالتعاون مع ذهنه وخياله الواسع برسم كل تلك التصورات اللاوقعية حوله وتعيينهُ فارسًا مغوارًا بمرتبة الشرف، إلا أنَّ الناس كانت تراهُ مجنونًا ومُزعجًا ولابُد من أن يتم توقيفهُ عند حده، فاتفقوا برسم مُخططات للإمساك به وعلاجه مما يُعاني.
وفي النهاية علم بأنهُ كان غبيًا، ولكنه عاد إلى عقله بعد فوات الأوان فقد أصابتهُ حُمى شديدة مات على إثرها وهو في فراشه. وهذا المقطع الذي لم نُشاهدهُ في حلقة الرسوم المتحركة.
وبعد سنين طويلة اكتشفت أن تلك الشخصية المُملة في الكرتون هي شخصية لرواية من أعظم أعمال الخيال، وأقدم الروايات. و"دون كيشوت" وإن كانت لشخصيةً خيالية، إلا أن هُناك أشخاصٌ واقعيين فعلاً يتأثرون بطريقةٍ أو بأخرى بالشخصيات التي يتابعونها عن طريق القراءة أو حتى المُشاهدة البصرية خلال الأفلام والمُسلسلات ومن ثم يتقمصونها في حياتهم الواقعية ويخلقون عالماً خيالياً يعيشون فيه وللأسف يزعجون غيرهم وهُم غيرُ مُدركين لفعلتهم تلك!
فالمُتأثر بالأفلام العاطفية والرومانسية يتحولُ إلى عاشقٍ ولهان تعبان يريد فتاةً تعيش معهُ قصة غرامية بأدق تفاصيلها ولكنهُ طبعاً لن يتزوجها! والمتأثرُة ببطلة فيلمٍ هندي مظلومة من أهل زوجها تتقمص تلك الشخصية و"تعمل من الحبة أُوبة"، لخلق بعض الأحداث في بيئتها حتى تلفت الأنظار إليها لتعيش الدور على أتم وجه! والأصعبُ منهُم هُم المتأثر بالأفلام الملحمية والنضال والحروب وشخصيات الأبطال الذين يُدافعون عن المظاليم ويقفون في وُجه الطُغاة، هذا إن كانت حياتهُ مُستساغة "باردة مبردة" لايعجبه، فيضيف فيها العكر برغبته الشخصية التي تسعى إلى الحماس هروبًا من ملل الهدوء والراحة بتهويل الأحداث، فيخلقُ لنفسه حاشيةً مظلومة والدفاع عنهم هو هدفهُ ومُهمتهُ المستحيلة، ثُم يخلقُ أعداءً -حتى لو من أقاربهم- حتى تكتمل الرواية الملحمية الخيالية بهزم العدو الخيالي والدفاع عن حق الحاشية المظلومة الخيالية، والانتصار للبطل والحصول على كأس البطولة الخيالية وتصفيق الجمهور الخيالي!!
وفي النهاية وبعد فوات الأوان سيكتشفُ أنهُ كان هُو "الملبق" الذي أضرم النار في حُقول العلاقات وجعلها رمادًا منثورًا.
وشيابنا قالوا: يوم يفوت الفوت ما ينفع الصوت. وخلي ينفعك "دون كيشوت".