حمد بن سالم العلوي
معظم الخضراوات والفواكه، وحتى التمور الموجودة في أسواق عُمان، مستوردة من الخارج، وتصل أرض عُمان بعدما يتم إنضاج بعضها في الطريق تحت أشعة الشمس، أو أنها مثلجة في برادات ضخمة تُسافر بها الشاحنات من بلد إلى آخر، وذلك حتى تصل إلى عُمان، وبالكاد يصل مُعظمها وهي صالحة للمواشي، وليست نافعة للاستخدام الآدمي إلا النذر اليسير منها، وأنت إذا تجولت بالطائرة (العمودية) فوق الأجواء العُمانية، سوف يهولك كثرة المروج الخضراء من المزروعات، ولن تمرَّ فوق وادٍ أو هضبة، وإلا سترى المزروعات تملأ الأفق، ولن تعبر الجبال والصحاري والسهول من مسندم إلى ظفار، إلا وسترافقك المزروعات وإخضرار الأرض تحت رؤية بصرك، وعندما اشترطت الطائرة العمودية، حتى يكون المرء على مستوى قريب من الأرض، خاصة لمن عنده قصر نظر.
ترى ما فائدة هذا الإخضرار، وهذه المزروعات، إذا واصلنا استيراد حاجاتنا من المنتجات الزراعية إلى السلطنة، علمًا بأنَّ كل الفواكه من تينٍ وعنبٍ وخوخٍ وأناناسٍ وفراولة وغيرها الكثير، قد جُرّبت زراعتها في عُمان، وأثبتت جودة عالية، وهناك فواكهه كانت موجودة في عُمان من قبل؛ مثل: الشمام والبطيخ العُماني والأمبا "المانجو" وغيرها من الفواكه والخضراوات، إلى جانب القمح والتمور والبقوليات، وكلها مزروعات عُمانية تقليدية، وكانت نتائجها مذهلة. لكن لا تعرف من يقف وراء جودة إخضرار الأرض الآن دون جدوى، وذلك في طول البلاد وعرضها، وعندما تأتي للبحث عن المنتجات الزراعية في السوق المحلي، تجدها منتجات هزيلة وضعيفة وغير متوفرة في الأسواق، ولا أعرف لماذا نسمي الزراعة في عُمان بـ"الثروة الزراعية" فلماذا لا تسمى بالإخضرار الزراعي للزينة والمنظر العام؟!
أثناء كتابتي لهذه المقالة توقفت لأستطلع ماذا يدور الآن في "الواتساب" عن الزراعة في عُمان، وبالصدفة وجدت أحد الأشخاص يصور مقاطع فيديو من سوق الموالح، ويرسلها مع التعليق الذي يقول فيه: الحكومة توقف استيراد الجح لأنَّ هذه الأيام موسمه في عُمان، وكذلك توقف استيراد الطماطم لنفس السبب، ولكنها لم توقف تصدير منتجاتنا الزراعية إلى دول الجوار، وظلت النوعية الرديئة يؤتى بها إلى سوق الموالح، ورغم عرضها تحت أشعة الشمس (السويسرية) في الفضاء الخارجي للسوق، لكنها تباع بأسعار عالية جدًا، نتيجة لشح الكمية.
هنا أتساءل لماذا لا يُوقف التصدير كذلك طالما أُوقف الاستيراد؟! ولماذا لا تتولى جهة ما التوزيع على الأسواق المحلية بداية؟ ثم تقوم نفس الجهة بتصدير الفائض؟! ولا بأس أن ينتقى الجيد للتصدير، ولكن بعدما يكتفي السوق المحلي، ثم لماذا لا تعيدون لنا أسواق الخضار التي كانت موجودة في مطلع السبعينيات إلى الثمانينيات من القرن الماضي، حتى احتاج بعض الهوامير (ربما) لمواقعها، واختفت تلك الأسواق التي كانت ناجحة من وجهة نظر المواطن العادي.
كان في الماضي تجد على الطريق شبابًا يقومون ببيع المنتجات الزراعية على الطرقات، ولكن في الأعوام الأخيرة تراجعت تلك الظاهرة الإبداعية، وقد تلوم وتعذر في نفس الوقت ذلك؛ لأن حرارة الشمس أصبحت لا تُطاق، ولا يستبعد أن تكون الجهات البلدية، قد فرضت عليهم شروطًا ورسومًا، وذلك بدلاً من تهيئة بيئة العمل لهم، ودعمهم بمحلات مكيفة، وبأجور رمزية، فأصبحت المادة مقدّمة على استمرار العمل وديمومته، فمتى سنوفر بيئة داعمة وجاذبة ومشجعة للعمل الحر، والتجارة المريحة والرخيصة، إلا إذا كان دخول عُمان نظام التجارة العالمية، قد غير أحوالنا من دولة منتجة، وتسعى للاكتفاء الذاتي، إلى دولة استهلاكية، همها استنزاف الثروات الزراعية في اللا شيء، وهدر المياه في إخضرار الأرض وحسب، وإتلاف التربة الخصبة في أشياء غير مفيدة.
لا أقول هذا الكلام متأثرًا بما كان يردده على مسامعنا الأستاذ/ عبدالرحمن سويد، عندما كان يشرح لنا الدرس في الصف المدرسي، عن حياة ومعيشة الإنسان العُماني قبل عام سبعين فيقول؛ إن 80% من السكان كانوا يعملون في الزراعة، وإن 20% البقية كانوا يعملون في الصيد البحري، وكوني قد عشت ذلك الزمن، فلم أكن لأعترض على كلامه، وأنا الآتي من قرية صغيرة كان كل عملنا فيها الزراعة أي أنا من الفئة الأكبر (80%)، وحتى الجانب اليسير الذي كنَّا نعمل فيه بالتجارة، هو الاتجار بالزائد عن حاجتنا من منتجاتنا الزراعية، ونشتري بالمردود النقدي، الأرز وكنَّا نسميه "رنز" والقهوة والقليل من السكر وبعض البهارات والتوابل. لقد كانت قريتنا الصغيرة، تنتج التمور والقمح للاستهلاك المنزلي، ولكن الإنتاج الفائض كان من البصل والثوم، أما اليوم حتى هذه المنتجات البسيطة يؤتى بها من الخارج.
إن التكامل الاقتصادي للسكان في عُمان، كان يقوم على الزراعة والصيد البحري، وتربية المواشي، وإنتاج السمن واللبن واللحوم والغزل والنسيج من صوف الغنم، وشعر الماعز ومن القطن، وهذه الصناعات والمنتجات توقفت اليوم، وبعض النسيج ما كان يحتاج إلى مصنع خاص، وإنما يسدِّي النساج غزله تحت شجرة من الأشجار المألوفة ويبدأ العمل، وصار كل شيء اليوم يؤتى به من الخارج، والعمل انتقل من الزراعة والصيد، إلى الوظائف المكتبية والإدارية في القطاعين العام والخاص، وانتهى ذلك التنوع الكبير والتبادل في المنافع، وتحول إلى الوظيفة ذات الدشداشة البيضاء والمصرّ المنقوش، ويأتيه الراتب المعلوم والمقسوم إلى حسابه في البنك، وتوقفت حاجة الناس لبعضها البعض، وطغت الأنانية والفردية والمصالح الشخصية على كل القيم الأخرى.
لذلك تحولت الزراعة الوطنية التي كان يعتاش عليها الناس، إلى مجرد إخضرار يغطي مساحات واسعة من الجغرافيا، لمجرد زينة وتباهٍ بين الأغنياء، وذلك بامتلاك العديد من الأفدنة الخضراء، وما تبقى من أدوات عمل النسيج، والفلاحة من مسحاة ومرضمة وقراز، وقفير ومخرافة وضميدة ومزماة وعزاف وسمّة، وهبّان وقربة وسعن وعكّة ومزود، ومنجور ودوَّارة ودقل ورشى، حولت جميعها إلى المتحف الوطني.. سبحان الله مُغير الأحوال..