التقاعد المُثمر

 

محمد بن سعيد الرزيقي

"التقاعد" كلمة تجدها عند البعض تحمل معنى التفاؤل، واستشراف حياة جديدة مُفعمة بالحيوية والنشاط؛ بل هو عندهم حلم لطالما داعب مخيلتهم لسنين طوال، وطربت له نفوسهم عند ذكره، خصوصًا عند أولئك الذين خططوا له من قبل، وهو بالنسبة لهم فرصة سانحة للتحرر من قيود الوظيفة، ورتابة العمل اليومي، والتخلص من ضغوط ومسؤوليات الوظيفة، والانطلاق إلى الحياة بطعم الحرية، وممارسة مختلف الهوايات، والتركيز على الاهتمامات الأخرى.

وعند البعض الآخر تحمل كلمة التقاعد معنى نهاية البذل والعطاء، وابتداء حياة ملؤها السآمة والرتابة؛ حيث إن نظرتهم إلى التقاعد تختلف عن نظرة المتفائلين، فهم يجدون راحتهم في وظائفهم التي رافقتهم لسنين من أعمارهم، حتى أنهم يزهدون في إجازاتهم، فلا يخرجونها رغم تراكم رصيد الإجازة السنوية، بل لا تحدثهم أنفسهم للخروج في إجازة يجددون فيها نشاطهم وحيويتهم، وإذا ما تقاعد أحدهم تغيرت لديه الساعة البيولوجية؛ فلم يعد يخرج في وقت الصباح للوظيفة مثلما كان، ولم يعد يرى المراجعين وزملاءه الموظفين مثل ما يراهم كل يوم، وتغيرت أوقات نومه واستيقاظه، ومواعيد خروجه ودخوله إلى المنزل، ولربما أحدث بعض المشاكل مع الزوجة والأولاد والجيران، أو كان طرفاً في هذه المشاكل؛ ومرد ذلك كله الفراغ الذي يعيشه المتقاعد، وكما قيل في الحكمة" النفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالباطل" ولربما أدى به حاله في نهاية المطاف إلى التأزم النفسي، والدخول في نفق مظلم.

أخي القارئ الكريم.. لا شيء يدوم على حاله، يقلب الله الليل والنهار، وحياتنا تدور في فلكهما؛ فإذا ذهب النهار جاء الليل وهكذا تنقضي الأيام وتنقص الأعمار، ولا مفر من التقاعد عاجلا أم آجلا، ومن لم يخرج بالتقاعد المُبكر خرج بالتقاعد الإجباري، وهذه سنة الحياة، وأرى أنه متى ما لاح في أفق سمائك بوادر التقاعد، وأصبح واقعا في حياتك، أن تهتم ببعض الأمور لتجعل من تقاعدك تقاعدا ناجحا ومثمرا بإذن الله وهي:

أولًا: الاهتمام بالجانب الروحي والإيماني، وذلك بأن تعطيه جل اهتمامك، لأنه حبل الله المتين، وصمام الأمان من عثرات الدهر، ومواجع الأيام، وله دور كبير في المحافظة على الصحة النفسية وتعزيز القدرة العقلية للإنسان، وفي الفراغ الروحي مفسدة على الصحة النفسية والعقلية، ومدخلا من مداخل الشيطان ووساوسه الهدامة. ومن الأمور التي توقد جذوة الإيمان؛ أداء الصلوات في أوقاتها والمحافظة عليها في الجماعات، وقراءة القرآن الكريم؛ بأن تجعل لك وردا يومياً منه، وهو بمثابة وقود لإيمانك؛ فتزود منه تلاوة وحفظا وتدبرا، والمحافظة على صلوات النفل مثل: قيام الليل، وصلاة الضحى، وعليك بالذكر الكثير مثل قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إنها طب النفوس وشفائها.

ثانيًا: الاهتمام بالجانب الصحي بشقيه العضوي والنفسي، وقد قيل في الحكمة المتداولة (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى)؛ فجدير بك أخي المتقاعد أن تهتم بصحتك؛ وذلك باتباع عادات وسلوكيات صحية في تناول الغذاء، وممارسة الرياضة؛ لأن في ممارستها تحريك للجسد، وتنشيط للدورة الدموية، وتقوية للعظام والعضلات، والمواظبة عليها وقاية أو تخفيف لك من الكثير من الأدواء؛ كداء السكري، وضغط الدم، وهشاشة العظام، وهي سبب في إفراز دماغك لهرمون السعادة (الدوبامين)، ولك أن تمارس أي رياضة؛ غير أني أرى المشي السريع هو الأفضل لك من بين الرياضات، كما أنصحك بإجراء الفحوصات الدورية؛ لأنها مهمة في اكتشاف الأمراض مبكرا، والسيطرة عليها ـ بإذن الله ـ أو معالجتها بأقل ضرر. كما أرى من المهم جدا الاهتمام بصحتك النفسية، بالابتعاد عن المنغصات، والتقليل من الجلوس أمام التلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها؛ لأنها تسرق عليك وقتك الثمين، وتجلب لك الكآبة والسآمة. كما لا أنسى أن أذكرك أن جعل وقت للسياحة في الأرض، وزيارة البلدان المختلفة، والالتقاء بأهلها ومعرفة عاداتهم وثقافاتهم المتنوعة، وتبادل الأحاديث والخبرات، لأن في الخروج للسياحة عائد ممتاز في إنعاش الصحة النفسية، وتجديد روتين الحياة اليومي.

ثالثًا: الاهتمام بالجانب الأسري والاجتماعي؛ فالأسرة تنتظر من المتقاعد أن يكون عونا لها، ومربيا، ومعلما وناصحا، كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته يساعد أهله، ويخيط ثوبه، أفلا نقتدي به صلى الله عليه وسلم؟!. والأبناء يحتاجون إلى رعاية مثل: متابعة دراستهم، وإقامة حلقات قرآن في البيت، وتعليمهم أمور دينهم. وفي زيارة الأرحام والوقوف على احتياجاتهم المختلفة أجرٌ عظيم عند الله تعالى، وكذلك المجتمع أيضًا ينتظر منه الكثير؛ وكما قيل (الإنسان مدني بالطبع) بأن تكون عونا لهم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر المشاركة في تأسيس الجمعيات الخيرية التي تعتني بأحوال الفقراء والمساكين وإيصال الخير إليهم، أو أن تكون معلمًا للقرآن الكريم في محيطك وقريتك، أو أن تقيم دورات في تخصصك تنفع بها الناس.

رابعًا: الاهتمام بالجانب المعرفي، فلئن كان الطعام هو غذاء الجسد؛ فإنَّ المعرفة غذاء الروح والعقل، فمن الجيد أن تقرأ الكتب التي تزيد من معارفك، وتصقل مواهبك، وأن تخصص وقتا للقراءة اليومية، وإن استطعت أن تكمل دراساتك من حيث توقفت فهو خير لك، وإن أردت أن تتخصص في موضوع مُعين تنفع به الناس؛ فهو من الخير بمكان، واستمع إلى المحاضرات الدينية، والعلمية والثقافية، ولك في الشبكة العنكبوتية مجالا واسعا.

وختامًا.. إنَّ الأمور التي ذكرتها أعلاه، لا تعدو أن تكون قطرة من فيض، وإن المؤمل من المتقاعد أن يُثَّمر الجانب الروحي والإيماني منه بما يعود عليه وبمن حوله بالنفع والخير الجزيل في الدنيا والآخرة، وأن يُثَّمر في علاقاته الأسرية و الاجتماعية؛ لتنتج صلة أساسها العطف والرحمة، والنصح والإرشاد للأسرة والأرحام والمجتمع، وأن يُثَّمر الجانب الصحي لديه بما يعود على جسده ونفسيته من صحة وعافية، وأن يُثَّمر الجانب العلمي والمعرفي بما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير العميم، ونشر العلم والمعرفة بين النَّاس، وهذا هو التقاعد المثمر في اعتقادي.

وأخيرًا تأمل أيُّها القارئ الكريم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هِرمِك، وصحتك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك".

تعليق عبر الفيس بوك