"جدلية المواطن والسلطة" بين النار والنور (3- 3)

د. مجدي العفيفي

... ويختزل العنوان عند د. أنور الرواس جوهر النص عبر التكثيف والتمثيل، ليس فقط لكونه قيمة إشهارية وتعيينية، بل أيضًا باعتباره قيمة جمالية وفكرية تحمل الكثير من جينات النص، فيغدو العنوان شفرة نصية، ومرتكزا أساسيا تتماهى فيه القصدية الواعية في الاختيار، مع الاستراتيجية النصية التي تتضافر فيها عناصر العملية الكتابية في سياق أبنية الخطة البلاغية الشاملة.

استخدم الكاتب مائتي عنوان في كتابه هذا، وصنفها تحت ستة فصول تراوحت بين السياسي والإعلامي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي، فجاء عنوان كل فصل، ليفكر لمجموعة الرؤى التي تطرحها مقالاته، إذ ينهض العنوان بوظيفة إدراكية مهمة تهيئ القارئ لبناء تفسير للنص، أو ما يتحدث عنه المقال، وأن عناوين النص جزء من البنية الكبرى، وأنه علامة إجرائية لمقاربة النصوص بغية استقرائها واستيعابها، تحيل على مجموعة من العلامات المشكلة للمعنى، تحدد له جملة من الوظائف التى تعين العمل أو مضمونه، أو تمنحه قيمته منجزا بذلك ثلاث وظائف: تسمياتية وتعيينية وإشهارية.

وهنا يتبدى حرص الكاتب في وضعية عناوين الفصول ذاتها، كعناوين يمكن وصفها بأنها «بؤرية» فكل عنوان يبدو كأنه يفكر لنصوصه في كليتها، فيغدو بمثابة عملية تأشير لها، واختزال ما فيها من أفكار ورؤى، فيجعل من العنوان معادلا لأصوات المقالات، إذ يلقي عنوان كل فصل بظلاله على أجواء عناوينه الداخلية فيسمها بالقصدية، حتى لتبدو كل مجموعة من المقالات وكأنها نص متكامل مترابط ينضوي تحت العنوان المنتقى بوعي اختياري وإرادة فنية، وباتخاذه موقعا استراتيجيا.

ويحمل الفصل الأول «قراءات سياسية - 28 مقالا» وهي ليست مراجعات سياسية مؤقتة أو موسمية بقدر ما هي رؤية فكر سياسي يؤصل ويحلل ويكاشف.. ويفرد الفصل الثاني منظومته الفكرية لقضية «الإعلام السلطة العابرة للقارات- 33 مقالا» وهو أقرب القضايا للكاتب باعتباره أستاذ إعلام.

بينما يعزف الفصل الثالث مجموعة من التقاسيم على أوتار المجتمع يبلغ عددها 36 مقالا، وهي عزف منفرد أحيانا وعزف جماعي أحيانا أخرى.

ويسلط الكاتب في الفصل الرابع الضوء النقدي على مجموعة من الثقوب في الرداء التعليمي، لا سيما في أجزائه الجامعية والأكاديمية، لعله يتخلص منها، ليبقى ناصعا وذلك في 28 مقالا.

ويوغل كاتبنا بقلمه في بحر لجي يستدعي مهارة خاصة في السباحة، فإذا به في الفصل الخامس - وهو الأطول بين الفصول53 مقالا - وضعه تحت عنوان«الاقتصاد بين الانفتاح والاحتكار» محملا بالثنائية والتقابل والتضاد أحيانا.

ثم يتألق الفصل السادس بباقة من ومضات ثقافية عبر 19 مقالا، يبث فيها مؤلفنا خواطره وخطراته، وكأنها لحظات التنوير التي تربط الكاتب والكتاب بالقارئ والمتلقي عموما.

ويُفضى التحديق فى العنوان الذي يمثل العتبة الأولى من العتبات النصية، إلى مجموعة من العلامات الإشارية، حيث يتردد العنوان في ثنايا المقالات تصريحا وتلميحا، وغموضا وانكشافا، باعتباره جماع النص وملخصه، وتتسم عتبة العنوان بحضور دائم، وقدرة إشارية على إثارة الأسئلة، إذ يمتد عنوان الفصل في شبكة من العلاقات الداخلية تتجادل فنيا لتشد العنوان إلى نصه الذي صنعه، وتربط النص بعنوانه كعتبة أولية.

وأحيانا يستخدم كاتبنا «العنوان الساخر» الذى يكسر أفق التوقع كمثل «عفوا القنوات مشغولة» و«عندما يكون التاجر وزيرا» و«الاحتكار الذي لا نسمح به» و«القطاع الذي أدار ظهره» و«ديون في مهب الريح».  

وأحيانا يحمل «العنوان التساؤلى» صيغة مثيرة للجدل هل هي استفهامية أم استنكارية، وهو بذلك يدعو القارئ إلى التشارك معه في التعامل مع المشكلة المطروحة لإحداث التفاعل باستقطاب الوعي من قبيل.. «ماذا نريد لأنفسنا في عصر لا وجود فيه للأحادية» و«ماذا بعد الانتخابات؟» و«أين نحن من الألفية الجديدة؟» و«أزمة لغة أم أزمة أفكار؟» و«لماذا هذه الخسارة؟» و«أين تبسيط الإجراءات؟» و«لماذا لم يصدر القانون الاعلامي الجديد؟» و«هل نحن جاهزون؟» وهو بهذا الاستعمال يثير ثقافة الأسئلة بالرغبة المتبادلة.

وهناك «العنوان المكانى» الذى تشي به المقالات تأكيدا علىتفاعل المشاهدة العينية مع المشاهدة الفؤادية.. «عمان اليوم..» و«مسقط والتخطيط السليم» و«النداء الوطني» و«الوطن ينادي الجميع» و«جمعية حماية المستهلك» و«صلالة» و«أروقة المحاكم» و«الجامعات الأهلية» و«الجامعة وخريجوها» و«الجامعات بقبعات غربية» و«الجامعة وقبعة الخواجة» و«مجلس الجامعة».

 وهناك العنوان التجريدي، الذي يبتعد عن المباشرة في التعبير مثل: «لغة الحوار» و«الثوب الفضفاض» و«سمات الحياة» و«التفريط باللغة العربية» و«الحقيقة الغائبة» و«المبادرات الإنسانية» و«أدبيات الحوار» و«الحرية المحرمة» و«الهوية المفقودة».

وهناك «العنوان التشخيصي» الذي يرمز إليه عنوان«جدلية المثقف العماني» و«فلاتشى وجهلها بحقيقة الحضارة الاسلامية» و«عندما يكون التاجر وزيرا» و«المستثمر الأجنبي وتدفق الأموال» و«حيرة المستهلك».

ويميل د. أنور الرواس فى كثير من عناوينه إلى البعد الأيديولوجى، فيحملها رؤيته الواضحة ورأيه الصريح، طبقا لمعتقداته وقناعاته، حيث يختزل رؤيته في عنوانلا يفهم بمعزل عن النص، فيشحنه باشتغالية عالية تنفجر منها القصدية والانتباه، ليستمد قيمته الدلالية من حزمة ضوئية كاشفة لأبعاد القضية التي تشغل المؤلف، الذي يريد للمتلقي أن ينشغل بها أيضا ويُعمل التفكير فيها، حيث يأتي محملا بإشارات وشحنات تتكئ على دلالات لغوية واجتماعية وأخلاقية مثل: «الإنسان والسلطة» و«الرأي المسؤول» و«المجتمع المؤسساتي» و«الممارسة السياسية والانتخابات» و«التغيير بأسلوب تقليدي» و«رؤيتنا للتغيير»و«الرؤية السياسية للعمل المؤسسي» و«المنبر الحر» و«الإعلام والوعي السياسي» و«الاعلام والأمن في عصر الشفافية» و«عُمان ومرحلة التعددية الإعلامية» و«التعليمات الشفهية تقوض العمل الصحفي» و«الإعلام وصناع السلام في عالم متغير» و«الإعلام لا يحارب الفساد» و«التسيس الإعلامي» و «الحرية المحرمة» وغيرها

وهكذا.. تؤكد استراتيجية العنونة عند الكاتب د.أنور الرواس حيوية العنوان وأهمية وجوده على رأس النص، ودرجة تدخله في توجيه فضاء المتن وبناء معنى الخطاب، الأمر الذي يجعل العناوين مفتوحة على كل الاحتمالات.

هذه هي (جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع) التي توزعت على هذه السردية التي أفردنا لها هذه الثلاثية من مقالنا الأسبوعي، عبر صفحات ( الرؤية) ذلكم أن الكاتب هو الأطول عمرا، والأغزر فكرا، والأقوى أثر، حين يطوى النسيان كل شيء.

وتبقى العصمة فى يد الكتاب، مهما كانت غواية الصورة...!.

نعم.. في البدء كانت الكلمة.. فكان الوجود.. والكون.. والحياة.. والزمان.. والمكان..والإنسان.. ومع الإنسان انساب القلم.. فكانت الكتابة.. وكانت القراءة..وكان الإبداع.. وكان اتصال السماء بالأرض عبر الكلمة.. فكل كتاب جديد يصدر فى شارع المكتبات هو إضافة، بل قيمة مضافة.

ومن ثم فإني لأواصل الترحيب العلمي، والاحتفاء الصحفي، بكتاب المفكر الدكتور أنور الرواس (جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع) الذي هو باكورة «مكتبة د.أنور الرواس» على رفوف المكتبة العربية..

نتظر الكثير.. والعميق.. والجديد.. من (مكتبة الدكتور أنور الرواس) والتي وعدتنا بها "دار المعارف" التي نشرت وطبعت الكتاب، إذ قالت إنها تقدم إلى العالم العربي مثقفا خليجيا موسوعي النظرة والمنظور، هو المفكر العُماني الدكتور «أنور بن محمد الرواس» رئيس مجلس إدارة جامعة ظفار، وأستاذ الإعلام السياسي المشارك بجامعة السلطان قابوس، لم يشأ المفكر الرواس أن تظل أطروحاته حبيسة أسوار الحرم الجامعي، بل تُجاوزها إلى فضاء المجتمع الأكثر رحابة، عبر قلمه الجرئ، الذي يصهل به في وسائل الإعلام العُمانية والعربية والإقليمية منذ أكثر من 40 عاما.

ويطرح في كتابه هذا «جدلية المواطن والسلطة» مجموعة من القضايا السياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية التي تمس عذابات المتلقي وأشواقه، وتشتبك مع آماله وآلامه، بما يثيره من ثقافة الأسئلة، ويدعو إلى التفكير في اللاَّمفكر فيه، ويحفر في طبقات الوعي العام، ويكسر القشرة الصلدة التي تحول إلى حد بعيد بين المواطن والرؤية الواقعية للعالم والإنسان والكون.