د. مجدي العفيفي
قراءات سياسية.. الإعلام سلطة عابرة للقارات.. تقاسيم على أوتار المجتمع.. ثقوب في الرداء التعلمي.. نظرات في عالم الاقتصاد.. ومضات ثقافية .. تلك هي عناوين فصول السفر الأول للكاتب والمفكر د. أنو بن محمد الرواس، وقد تناولت في الجزء الأول ثلاثة من الدلالات التي تشي بها أطروحته التي وضعها على رفوف المكتبة العربية قبل أيام "جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع".
***
الدلالة الرابعة: إن كل فصول هذا الكتاب تجري حوارات بين الأجيال التي تتسم علاقاتها ببعضها البعض بمبدأ التواصل والتسلسل، فكل جيل يأخذ ممن سبقه، ويمهد لمن يلحقه، بمعنى أنه يحشد أكبر قدر من المعلوماتية للظاهرة التي يعالجها، بأقل قدر من الكلمات والعبارات، حيث العمق في تناول القضايا، والوضوح في طرائق التعامل مع إشكاليات المجتمع، والبساطة في طرح المشكلات التي تفرزها طبائع الحراك المجتمعي، ومن أجل ذلك يتسع حرص كاتبنا على أن يضع باكورة مشروعه الفكري هذا على رفوف المكتبة العربية، يخاطب به كل الأجيال، لاسيما جيل الشباب، وفي الوقت ذاته يكون وثيقة- إذا جاز التعبير- لمفكر من أبناء هذا البلد الطيب بكل شواهده الجغرافية، ومشاهده التاريخية، ومكونات شعبه الحضارية والمتحضرة.
***
الدلالة الخامسة: أن د. أنور الرواس يمثل «حالة فكرية» ترمز إلى وجود «المفكر العماني» الذي يتجاور مع أقرانه المشتغلين بالفكر وشئونه وشجونه، فعلىبرغم من كثرة وتكاثر المبدعين في الآداب والفنون، فإن وجود «مفكرين» ليس بالكثير ولا بالذي ينبغي أن يكون، في مقاربة هذا السياق ومن ثم تتجلى أهمية صدور كتاب فكري، وأكثر من كتاب، يتخذ من الفكر سبيلا، يمثل فكرا على واقع، كمفكر يتجاذب أطراف الحوار مع هذا الواقع، منتقدا ومضيئا ومنذرا ومبشرا في آن واحد، ففي الأدبيات السياسية والثقافية يعد الكاتب رسولا فكريا إلى مجتمعه، بل إن «بيرم التونسي» يُعِد «النقد امتدادًا للنبوة، ولولا النقاد لهلك الناس، ولطغى الجهل، ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال»، وهذا يتماس مع منظور كاتبنا إذ يقول: «إن النقد البناء الهادف الذي يخدم مصلحة الجميع سمة حضارية تعكس مدى التطور الذي وصلت إليه الشعوب، ومن هذا المنطلق، علينا أن نناقش قضايانا بعقلانية، وبتجرد تام عن ذاتيتنا، وصولا إلى نتائج إيجابية تهم المجتمع».
***
الدلالة السادسة: إن مشروع د. أنور الرواس الفكري يؤكد مدى حاجة المجتمع إلى الفكر ورجل الفكر، ويكشف الدور الذي يلعبه المفكر في خدمة المجتمع وإنارة محيطه قدر الإمكان، باعتبار أن مرايا الفكر هي أقوى المرايا، وكل مرآة منها لها طريقتها ولها خصوصيتها في عرض الصورة، حتى وإن بدت الظواهر السابحة على السطح متفرقة، فإنها تردها إلى عمق، نجد فيه الينبوع الخفي، الذي انفجرت منه تلك الظواهر وتشربها المجتمع، فتدفقت في دمائه، لأنها في حقيقتها واحد مشترك، أقيمت عليه جوانب مختلفة، كما تتفرع فروع الشجرة من جذعها، طبقا لمقولة فيلسوفنا الكبير «د. زكى نجيب محمود» ومن ثم فأفكار ورؤى كاتبنا د.أنور الرواس، إنما هي مثل الشمعة التي بقدر ما تضئ مساحة بنورها بقدر ما تكشف المساحة الأوسع من الظلام، وهذا هو شأن القلم الحر الذي يتنفس برئتي الألم والأمل.
***
ثمة مجموعة من الظواهر الأسلوبية التي تمثل أعمدة لاستراتيجية الإقناع والتأثير لدى كاتبنا؛ إذ تستوقفك مجموعة من العتبات النصية التي تشكل مواقع استراتيجية فى الكتاب، سواء أكانت فى شكل عناوين خارجية وداخلية، أم فواتح ونهايات، أم تواريخ نشر، أم هوامش وملحقات، ومع أنها - كمتعاليات نصية - تقع خارج النص الأصلي، بيد أنها تعمل على تعضيده فيغتني بها، وتفتح له آفاقا للتلقى أكثر اتساعا، كما نقول في الأدبيات النقدية.
وأول هذه العتبات «عتبة العنوان» باعتباره أول لقاء بين القارئ والنص، وهو هنا يفكر كثيرا لمحتويات الكتاب، إذ يشي بأكثر من معنى؛ إذ يعتمد على علاقة الجدل القائم دائما بين المواطن والسلطة، ويؤشر الغلاف إلى تعامل الكاتب مع معنى السلطة، وهو ليس بالمعنى المحصور فقط في بعدها السياسي، بل ينسحب على كل أنواع السلطة من اجتماعية وثقافية واقتصادية ومجتمعية، خارجية كانت أم داخلية، وقد جسدها القرآن العظيم في ثلاثية«الفرعونية والهامانية والقارونية».
وأول هذه العتبات «عتبة العنوان» كأول لقاء بين القارئ والنص، ونقطة الافتراق؛ حيث يصير هو آخر أعمال الكاتب وأول أعمال القارئ، بما يمثله من قيمة جمالية وإشهارية، باعتباره عقدا بين الكاتب والكتابة من جهة، وعقدا قرائيا بينه وبين جمهوره وقرائه من جهة ثانية، وعقدا إشهاريا بينه وبين الناشر من جهة ثالثة، وبالتالى يبدو كأنه نص صغير انبثق من آخر أكبر منه، ويكمله في الوقت ذاته، ويدور في فلكه ومداره، حتى لتشبه وظيفته بوظيفة الرأس للجسد.
وعنوان «جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في المجتمع الدولة» يفكر كثيرا لمحتويات الكتاب؛ إذ يشي بأكثر من معنى؛ أولا: يعتمد على علاقة الجدل القائم دائما بين المواطن والسلطة، وقد تعمد وضع كلمة «جدلية» لتحدد المنظور الذي يستخدمه في رؤيته لتقاطعات هذه العلاقة بتعارضاتها وتوافقاتها، ضمن سياق قانون جدل الكون والإنسان والأشياء، وتكررت كلمة الجدل ومشتقاتها المعنوية عدة مرات في سياقات متباينة، منها «جدلية المثقف العماني» في السياق الثقافي، و«عُمان ومرحلة التعددية الاعلامية» في السياق الإعلامي» و«التعليم وجدلية القرارات» في السياق العلمي التعليمي، وعناوين أخرى من قبيل«لغة الحوار» و«أدبيات الحوار» في أطر التعددية في الرأي والرأي الآخر وغيرها من السياقات.
وثانيًا: يؤشر الغلاف إلى تعامل الكاتب مع معنى السلطة، وهو ليس بالمعنى المحصور فقط في بعدها السياسي، بل ينسحب على كل أنواع السلطة من اجتماعية وثقافية واقتصادية ومجتمعية، خارجية كانت أم داخلية، وقد جسدها القرآن العظيم في ثلاثية «الفرعونية والهامانية والقارونية».
وثالثًا: إن عنوان الكتاب مشتق من أحد عناوين المقالات، وقد آثر المؤلف استخدامه عنوانا شاملا لكتابه، إذ يتضمن في عباءته كثيرا من المعاني ويبسط جناحه على رؤية الكاتب بشكل أو بآخر، وقد أحسن حين أرفق هذا العنوان بعنوان شارح «قراءة جديدة في الدولة والمجتمع» إدراكا منه لمعنى القراءة الذي لا ينحصر في إطاره الضيق، بل يتسع لاحتواء الدلالات المتعددة التي يشي بها فعل « اقرأ» في كل أبعاده.
وتقترن دلالية هذا العنوان برمزية الغلاف، كعتبة خارجية أخرى من العتبات النصية التي يوليها الكاتب اهتمامه، فيرينا الغلاف أكثر من رمز ومرموز له، وهو الذي شكله الفنان الدكتور عبد الكريم محمود، طبقًا لاستقطاره مضمون الكتاب، فهناك.. القلم وهو محور المعرفة الإنسانية الصاعدة باستمرار، والعنصر الأكثر وضوحا كأداة بيان وتبيين ووسيلة إبلاغ وتغيير.. والدماغ وذبذباته الفكرية..والمجتمع والعالم وكسر القشرة الصلدة بتفكيكها لإعادة تشكيلها.. المواطن المشارك بفعله الخلاق.. والمعول المتحرك بين الهدم والبناء.. ودائرة السلطة والسهم الذي يكاد يطبق.. والوجه بتوجهه وتوجسه، والشفاه كقناة للتعبير.. كل أولئك في لوحة معبأة الدلالات، متجاورة الأبعاد، مترابطة الدوائر، متناسجة الخيوط، مشدودة إلى... القلم الذي يعد بطل اللوحة المكتنزة!
وهي لوحة تؤكد أن فن الغلاف نافذة للتحليق فى فضاء الكتاب، وليس ترفا أو مجرد لوحة لونية، أو شيئا مهملا، بل صار يسهم فى توصيل رسالة الكاتب كلغة تقدم ثقافة بصرية للناس، ومفتاح تجميع المعلومات، وعنصر جذب للقراء، بل هو قراءة إبداعية أخرى للكتاب ومدخل مهم لعالمه، وبغض النظر عن مضمونه ومؤلفه، فإنه يختزل فى غلافه الفكرة، فثمة رابط ما بين العنوان وشكل الغلاف.
ينبئنا الكاتب عبر العنوان الشارح على الغلاف «مكتبة د. أنور بن محمد الرواس» أن لديه مشروعاً فكرياً تشي به هذه العبارة الواعدة التي تكشف أن صاحبها يعتزم تقديم سلسلة من الكتب، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وهذا الكتاب هو القطفة الأولى من حديقة هذه المكتبة، والتي أتوقع أن تكون يانعة الثمار وارفة الظلال، على ضوء الغزارة الفكرية التي رأينا تميز بها الكاتب، فهو الذي كان يرسل مقالاته في أعمدة صحفية منتظمة في الصحف والدوريات المحلية والخارجية، ويشارك بأوراقه البحثية في الكثير من المؤتمرات والمنتديات الفكرية المعتبرة، فكانت الاستمرارية سمته، وكان التدفق خاصيته، وكانت الديمومة صفته.
***
ويمثل الإهداء عتبة جمالية من المتعاليات النصية التي تمثل جزءا لا يتجزأ من عملية الكتابة وتجربة التلقي، وقد أهدى المؤلف كتابه «إلى عمان الوطن...» تلك الكلمة التي تختزل أسمى المشاعر، وتختزن أعظم الأحاسيس وتشكل تاجا لكل مواطن، وسياجا له، يعزز الهوية، ويضاعف الانتماء، ويعلي الهمة، ويوسع أفق الطموح.
ونجد أصداء لهذه الكتلة المتوهجة من المعاني متمثلة في ثنايا مقال «استنهاض الوطنية»؛ إذ يقول: «عندما نكتب عن موضوع معين أو ظاهرة ما، إنما نكتب بدافع وطني ليس إلا. والدافع هنا ليس من أجل التقليل من الآخرين أو البحث عن بريق إعلامي بقدر ما هو استنهاض لعزائم الجميع لخدمة الوطن. كل واحد منا ينظر للمفهوم الوطني بطريقته الخاصة إلا أن الهدف واحد هو الوطن دون سواه، ضمن هذا الإطار لا بد من إدراك أن السعي لتحقيق التوازن مسلك طبيعي وحق شرعي لمن أراد أن يكتب أو ينشر موضوعا أو تحقيقا عن قضية أو ظاهرة تهم الرأي العام».
ومن الملاحظ تكرار كلمة « الوطن» بكل اشتقاقاتها في خلايا الكتاب، تغلفها أطروحاته في كل ما يكتب، وفي كل سياقاتها، إنما تجيء معطرة بالحب والتقديس والرفعة والصالح العام، وتكشف عن الحس الوطني الرفيع للوطن بتاريخه وجغرافيته، وبشريته وإنسانيته، وحاضره وحضارته، زمانا ومكانا وإنسانا.
ونتواصل مع سردية جدلية المواطن والسلطة، إن كان في العمر بقية.