ربشة مذاكرة!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"فلتكن دراستنا لهذه اللهجات لتصحيح ما يصح في العربية منها، والتحذير مما لا يصح، والعلم على كل حال يقصد لذاته لا للمنافع القريبة" طه حسين.

***********

متاهات الحياة وانشغالاتها تجبر المرء على الخضوع للعبة التفاعلات الحياتية، فالحياة برمتها في الحقيقة تفاعلات، الأحلام مع الواقع، والواقع مع الطموح، والطموح مع القدرة والتحقق من التفاعل الإيجابي وبين الطموح والقدرة على تحقيقه، الحياة هي تفاعلات إنسانية وتفاوت الحلم والواقع، والأصل والاستثناء، والمع والضد!

متاهات الحياة وانشغالاتها لها تأثيرها المباشر على أصوات الناس وكلماتهم ولهجاتهم، كل كلمة هي مشروع عمل ماضٍ أو حاضر أو مستقبلي، في أحوال الانغماس بالعمل تشعر النفس وكأنها تائهه غير منضبطة السير، بسبب الانشغال بأمر ما، وينطبق ذلك حتى بالتفكير بأمر ما، وكل كلمة تترجم ذلك لها وقع معين وبحسب اللغة أو اللهجة المنبثقة منها، وفي لهجتنا الخليجية (بالطبع أقصد الألفاظ المشتركة بين اللهجات) هناك كلمة أو وصف لـ"المربوش"؛ منها فلانًا في ربشة عمل، وفلان منشغل بربشة اجتماع صاخب، وطالب منشغل بربشة مذاكرة، وهلم جرا.

في اللغة الفصحى هناك من يقول إن فلانا منشغلا "لشوشته" بعمل ما، وقس ذلك على بقية الأمثلة السالف ذكرها، أعتقد أن استخدام أي لفظ أو مفردة له علاقة بثقافة ولهجة بلد بذاته، ففي استخدام الألفاظ بكرة القدم بمنطقتنا الخليجية نعتبرها مباراة في كرة القدم، وأتذكر قبل سنوات سمعت معلقًا كرويًا من العراق يصف مبارة كرة القدم بين فريقين- أحدهما من بلده- بأنها منازلة بين الفريقين، وفي مصر الكنانة يقولون "ماتش كورة" بين الفريقين، وبالمغرب العربي تعتبر "مقابلة" بين الفريقين، وكل جزء من الوطن العربي له لفظه الخاص، وأعتقد أن للبيئة المحلية تأثير في ذلك، على الأقل لو بعض التأثير.

اللغة إذن هي التي تنبثق منها اللهجة، والتي من اللهجة تظهر مؤثرات المفردات الداخلية (أقصد المفردات الخاصة باللهجة ذاتها) وهنا أتذكر قول المفكر السوري عبدالكريم بكار: "اللغة ناقل غير شفاف. وهي تنتج لنا في معظم الأحيان الفهم المتعدد بل المتناقض" انتهى قوله.

بالطبع هذا المقال ليس عن اللغة ولا عن ذاتيتها ولا عن خصائصها، إنما لقراءة سريعة غير متعمقة، ربشة عمل أو انشغال بعمل أو غير ذلك، بالنهاية اللهجات على الأقل تسجل تاريخا غير منظور لتشعبات ونسق سياقات اللهجة وبداية تكون مفرداتها وتفرد ألفاظها.

وفي لهجات الخليج يوجد بعض التفاوت المختلف البسيط، ففي الكويت تتداول عبارة : "مو معقول"، وبنفس البلد هناك من ينطقها: "ماهوب معقول" وهي لهجة بدوية ويحضرني بيت لشاعر العامية راشد بن جعيثن (1):

والله مابعتك// ولاهوب معقول

أبيع ماضينا// علشان كلمة

أما في جنوب الجزيرة وبالتحديد في عُمان، نجد نطق عبارة: "مو معقول" بتبديل الواو إلى ألف على شكل: "ما معقول". وأيضًا بالكويت تتداول كلمة  "شنو" وكذلك تنطق بنفس البلد  "شنهو"، والسعودية  "وشوو" أو "وشهو"، أما بالإمارات فهي مشابهة للهجات الشامية "شو".

وفي هذا السياق يقول الأديب عباس محمود العقاد: "وكذلك تفيدنا دراسة اللهجات في معرفة التاريخ، ففي إقليمي (أسوان) يبدلون الميم باء فيقولون (البكان) بدلاً من (المكان) و(البُسمار) بدلاً من (المُسمار). فقد نفهم من هذا أن أصول القبائل التي نزلت في هذا الإقليم ترجع إلى القبائل العربية التي كانت تقلب الميم باءً".

أحد الأحبة شاورته في هذا المقال فقال: اللغة كائن ينمو، وهناك علم "فقه اللغة" يضع المصطلح في إطاره الزماني والمكاني وكم من المفردات غادرتنا لإهمالها وعدم استخدامها، كان لي اهتمام ولازال بالمصطلحات الحضارية وضرورة توثيقها لإبقائها حية على الأقل في الصفحات إن غادرت الأفواه.. انتهى رأيه.

أظنه يقصد بالمصطلحات الحضارية وفقاً لسياق الجملة المفردات التي اختفت من التداول اللغوي اليومي سواء باللهجة أو باللغة، فمثلا كلمة: "لا مندوحة فيه" معناها لا شك فيه، فمن النادر اليوم أن تقرأ لا مندوحة فيه، وفي اللهجة العامية كلمة: "كروه" وكانت تستخدم وتتداول بنطاق واسع وهي بمعنى الأجرة، أي أعطني كروتي أو أجرتي. وأتفقُ مع الصديق واهتمامه بضرورة توثيق المصطلحات أو المفردات، فنحن بزمن يسير بسرعة جنونية، ومع كل وقت قصير تختفي كلمة وتأتي مكانها كلمة أخرى بغالب الأحيان تكون أجنبية، ولك في كلمة "أوكيه أويOK" الإنجليزية مثالا صارخا، فقد وضعت كلمتي "حاضر" و"تمام" على الرف!

وهناك مقرر لدراسة اللهجات في عدد من الجامعات الأوروبية؛ إذ تقوم أقسام اللغة بالجامعات بإدراج هذا المقرر لأهميتة البالغة في دراسة اللغة وأنماط المجتمعات، ولم أسمع أو اقرأ أن هناك جامعات أو مراكز بحث عربية تهتم بدراسة اللهجات، رغم أهمية ذلك!

 

_________

  1. راشد بن جعيثن: شاعر سعودي، اشتهر بالقصائد العامية.