عقود من الاحتكارات.. كيف نكسرها الآن؟

 

د. عبدالله باحجاج

للأسف ما زالت الاحتكارات قائمة، وتتصاعد انكشافاتها، رغم أننا في مرحلة جديدة كان يستوجب محاربتها أولًا، أو بصورة متزامنة مع تطبيق خطة التوازن المالي (2021/ 2024) وهو ما لم يحدث حتى الآن، وليس في الأفق ما يجعلني أتفاءل بمكافحة حقيقية لها، رغم وجود تشريعات ومؤسسات.

كل ذلك لأنَّ القضية تحتّم أولًا التدخل السياسي الصريح والقوي، ووجود فاعلين مستقلين، ليس لهم علاقة بالنخب المالية والاقتصادية في البلاد؛ حيث إنَّ الاحتكارات قديمة وليست جديدة، ومن خلالها تكونت قوى ولوبيات مؤثرة، هي أقوى من آليات مُحاربتها، والغائب عن الفهم السياسي الآن، تقاطع التأثيرات الاجتماعية السلبية للاحتكارات مع نظيراتها الناجمة عن الخطة المالية.

نظرًا لأنَّ الاحتكارات تُحقق أرباحًا طائلة سنويًا من جيوب المواطنين عن طريق الأسعار المُرتفعة، فيما تستنزف الخطة المالية من هذه الجيوب أموالًا مُماثلة لخزينة الدولة. هذان مشهدان يعكسان عمق الأزمة المالية الاجتماعية الراهنة، وتُضاف عليهما حدة حالة الغلاء المتصاعدة خارج نطاق الاحتكارات، مثل ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية، ورفع الدعم الحكومي عن خدمات أساسية، ولنا المثال في تحصيل الحكومة مليار ريال عُماني عن طريق الضرائب والرسوم فقط، وفي تسعة أشهر فقط، كما أشرت إليه سابقًا، ونستعيدها هنا، لكي أضعها مع الآثار الاجتماعية الناجمة عن الاحتكارات في سلة واحدة.

لربما من خلالها- أي السلة- أتمكنُ من صناعة الاستعطاف السياسي لمُعاناة المجتمع الناجمة عن تعدد وتنوع مصادر هذه المُعاناة، وأبرز هذه المصادر: الاحتكارات من جهة، والضرائب والرسوم ورفع الدعم من جهة ثانية، وتلك الأخيرة أهم سياسات الخطة المالية، وآثارها السلبية لا يُمكن أن يتحملها المواطنون جميعهم الآن.. لذلك تتعالى الصرخات الاجتماعية من الغلاء ومن الضرائب والرسوم ورفع الدعم. فالاحتكارات تستهدف جيوب المواطنين منذ عدة عقود، ومنها حققت قوى ولوبيات الثراء على حساب المواطن، وجاءت خطة التوازن المالي للغرض نفسه، ونجحت في تحصيل مليار ريال في تسعة أشهر من هذه الجيوب نفسها، فإلى متى ستتحمل هذه الجيوب؟!

حتى الآن، لم نرَ الجهد السياسي ونتائجه الميدانية لمحاربة الاحتكارات، وما نشرته مؤخرًا هيئة حماية المستهلك عن ضبطية ضد مؤسسة قامت بتوزيع مستلزمات طبية مغشوشة مُنتهية الصلاحية، وما كشفه موقع "أثير" الإلكتروني من احتكار مؤسسة للأدوية يملكها أحد أصحاب الوزراء ووزير سابق، أكبر الأدلة على واقع الاحتكارات وأقدميتها، وما راؤها من قوى عميقة ونافذة. ومن خلالها تنكشف طبيعة الاحتكار في بلادنا، قطاع الأدوية نموذجًا، فلا غرابة أن تكون أسعار الدواء في بلادنا أغلى من دول المنطقة، ولا غرابة أن يحدث الغش نتيجة مثل هذا الاحتكار.

ووفق الانكشافات الصحفية، فهناك أكبر صيدلية معنية بتوريد الأودية في السلطنة ولها 37 فرعًا في مُختلف أنحاء البلاد، تبيع 75% من الأدوية والمستلزمات الطبية إلى وزارة الصحة بطريقة مُباشرة، وقد بلغت نسبة مبيعات المؤسسة بطريقة مُباشرة أكثر من 90% من الأدوية المورّدة إلى وزارة الصحة التي بدورها توزعها على المستشفيات المرجعية والمجمعات الصحية في مختلف مناطق السلطنة.. والمؤسسة نفسها هي المورد الرئيس للمستشفيات التابعة للجهات العسكرية ومستشفى جامعة السلطان قابوس والمستشفيات والعيادات الخاصة.. إلخ.

حتى تسمية الاحتكار هنا، أقل التوصيفات، ولو بحثنا عن تكيفيات قانونية أشد، فسيتراجع البُعد القانوني، ويتحمل البعد السياسي المسؤولية، فهل يُعقل أن يجهل بهذا الوضع طوال العقود الماضية وحتى الآن؟ هنا ينبغي أن تتدخل السياسة من أوسع أبوابها، رغم وجود مؤسسات وتشريعات تجرم الاحتكارات ومثل هذه الهيمنة، ففي هذه الواقعة المكتشفة استنزاف لجيوب المواطنين، وفي الوقت نفسه استنزاف لمالية الدولة، فمن المسؤول عنها؟ هل القانون أم السياسة أم كلاهما معًا؟

هنا ينكشف سببٌ مُهمٌ من أسباب الفاتورة الضخمة التي تُصرف من خزينة الدولة، وكذلك من مالية المواطن المحدودة جدًا، فحسب ما قاله توفيق اللواتيا عضو مجلس الشورى للصحيفة، فإنَّ سعر الدواء في السلطنة يكون أحيانًا أربعة أضعاف سعر دواء العلامة التجارية نفسها في دولة مجاورة، ومقارنة مع دول أخرى يصل السعر إلى 6 أضعاف أو ثمانية!! وندعو هنا إلى تخيل حجم أرباح المحتكرين طوال العقود الماضية وحتى الآن، والتخيل نفسه لحجم الخسائر الاجتماعية وخزينة الدولة طوال عقود ماضية.

من المؤكد أنَّ العقود الماضية قد صنعت قوى احتكارية متحكمة في الاقتصاد، ليس من السهولة مُكافحتها جذريًا بالأدوات والوسائل الراهنة مهما كانت أهميتها، ما لم تكن تحظى بدعم سياسي قوي، وتشريعات وعقوبات رادعة، وأعضاء غير اقتصاديين ومستقلين ومتخصصين، وليس لهم علاقة بالقوى الاقتصادية في بلادنا، وفي الوقت نفسه، ليس معهم عداء.. وأفضل تعبير سياسي لقضية الاحتكارات أن يكون مركز حماية المنافسة ومنع الاحتكار تابع للمؤسسة السلطانية مُباشرة، يستمد منها قوته في محاربة الاحتكارات والهيمنة.

ودون ذلك، لن تنكسر الاحتكارات، وستظل قائمة، فلا بُد أن تتدخل السياسة عاجلًا لكسر احتكار عائلات محلية مالكة لوكالات تجارية في مختلف نواحي حياتنا، وجعل الشركات تبيع منتجاتها في سوقنا مباشرة دون وكيل محلي، عندها سنرى الأسعار تنخفض، وستخفف إلى حد ما من وطأة الضرائب والرسوم ورفع الدعم. أما استمراريتها مع بقاء تلكم الأعباء، فهذا يمثل ضررًا اجتماعيًا بالغًا، وقضية الاحتكارات تُوضع الآن في المعادلة التالية: هل تستمر مؤسسات الدولة في إرضاء مجموعة أسر على حساب المجتمع والاقتصاد؟

هنا يمكن القول أخيرًا.. إن كسر هذه الاحتكارات كان ينبغي أن يقود مسيرة الإصلاحات في البلاد، وما زال الوقت متاحًا، والأهم أن نبدأ به عاجلًا.