ريم الحامدية
نعيش بين كلمات تُقال على عجل، وتصرفات لا تشبه أصحابها، ومواقف تُشوّهها زاوية الرؤية، وبين كل هذا الضجيج الذي نشعر به، لا ينجو إلا من يمتلك فنّ التغافل. ونتساءل: هل كل ما يُقال يُقصد؟ وهل كل ما يُقصد يستحق الرد؟
ذلك لا يعني الجهل، بل الوعي العميق بأنّ القلب لا يحتمل أن يُركّز في كل الهفوات.
نحن لا نعيش في فراغ، بل في عالم يعجّ بالزلات، بالنظرات التي تُفهم خطأ، بالكلمات التي تُقال بنصف نيّة، وبمواقف لا تُفسّر كما يُراد لها، وفي أعماق كلّ واحدٍ منا حيز صغير للحرب، وآخر للسلام، فنصبح أمام خيارين: أن نحمل السيوف، أو أن نرفع راية الرحمة.
إنّ التغافل في حقيقته ليس هروبًا، بل اختيار ذكي للسلام، وهو عزم داخلي أن نبقي أرواحنا طافية على سطح الحياة بدلًا من أن تغرق في طين التفاصيل.
أكاد أجزم بأنّ في الصمت رحمة، وفي التغافل نجاة، ولكن رغم كل هذا، يجب أن تكون الصراحة حاضرة.
إنّ في التغافل بُعدًا إنسانيًا راقيًا يعلّمنا كيف نُحبّ دون شروط، وكيف نصون العلاقات من السقوط في هاوية التدقيق.
هل جرّبت يومًا أن ترى الموقف بعيون غيرك؟ أن تفهم الظرف بدلًا من أن تحكم على الفعل؟
ففي تغافلنا عن زلّة الصديق بقاء للود، وفي تغاضينا عن خطأ العائلة حفظ للبيت، وفي تجاوزنا عن هفوة الغريب ارتقاء بالمجتمع نحو الرحمة، ففي الحب، والزواج، والأخوّة نحتاج من يمنحنا مساحات للخطأ، أن يُحبّنا أحدهم رغم زلاتنا، أن يرى غضبنا ويعذر، أن يسمعنا ونحن نبدو قساة، ويعرف فينا تعبًا لا يُقال.
التغافل في العلاقات ليس تهاونًا، بل هو اختيار ناضج في أن نبقي الصورة الكبيرة رغم الخدوش، وأن نبقي القلب دافئًا ولو مرّت فيه رياح باردة.
فحين نغضّ الطرف عن عثرة القريب، نبقي الباب مواربًا للحب، وحين نتجاوز سوء الفهم، نمنح العلاقة عمرًا جديدًا، وحين نتغافل عن الزلات، نحن لا نبرّر، بل نرحم.
وكما قالت الكاتبة العربية مي زيادة: "القلوب التي تعي، لا تحتاج إلى كثير من التبرير، يكفيها الشعور".
فنختار التغافل حين نريد أن نبقى خفافًا، حين لا نريد لكل زلّة أن تجرّنا إلى هاوية العتاب، حين نختار أنفسنا لا غضبنا، وحين نختار العلاقة لا الانتصار، وحين نؤمن أن العافية في التغافل، وأنّ كل نفس تُرهق بما تُصرّ على حمله.
وها نحن هنا بين حروف لم تُقَل، وقلوب تُخطئ وتغفر بصمت، لا نعرف متى ينتهي الحديث، ولا متى تبدأ الرحلة.
وفي عالم لا يتوقّف عن الانكسار، يبقى التغافل السحر الخفيّ الذي يجعلنا نعيد ترتيب الفوضى بأيدٍ رقيقة، ونرسم على جراحنا ابتسامة لا تُرى إلا في صمت العيون.
ففي التغافل يكمن سر الحياة.
وفي هذا العالم المثقل بالافتراضات والتأويلات والكلام، لا أحد ينجو إلا من خفّف عن قلبه.
فالتغافل ليس تنازلًا عن الكرامة، بل تمسّك بالطمأنينة، فامضِ ولا تُفسّر كثيرًا، تجاوز ولا تُعاتب طويلًا، تغافل، لأن قلبك أحقّ بالسلام.