ناصر أبوعون
في تاريخ الفقه والقضاء العربي ليوثٌ كثيرة ضيعتها أشبالها، وأهمل تلاميذها علومهم واكتفوا بحفظها في الصدور، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التدوين والنسخ، وعبر مسيرة تاريخ العربية الطويل قرأنا في بطون الكتب وأمهات المتون عبارات صارت مضرب المثل كقولهم عن الليث بن سعد "فاق في علمه وفقهه إمام المدينة المنورة مالك بن أنس، غير أنَّ تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق"، وكان الإمام الشافعي يقول: "الليث أَفقه من مالك إِلاَ أَنَ أَصحابه لم يقوموا بِه".
وفي عُمان "ليوث" كثرٌ نذكر منهم الشيخ القاضي محمد بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي، الذي بلغ شأوًا عاليًا في الفقه والقضاء؛ فقد كان الناس يرجعون إِلى رأيه، ويطلبون مشورته، ويستأنسون بمحبته، ويعملون بفتواه، ويستنيرون بأنوار حكمته؛ كونه كان كثير الاتصال بمجالس العلم وشيوخ عصره العُمانيين الأفذاذ.
وهو من مواليد مسقط؛ حيث نشأ فيها وترعرع في أفيائها مطلع صباه، فلمّا شبَّ عن الطوق لازم مجلس أبيه قاضي مسقط، فدرس على يديه أصول الفقه الإسلاميّ في المذهب الإباضيّ، وطفق ينهل من معينه اللغويّ، فحوى علوم البلاغة، وجمع فنون البيان في صدره وخطّها في كراريسه. وطلبًا للاستزادة من علوم العربية على اختلاف فروعها رحل إلى سمائل الفيحاء- مسقط رأس أجداده- ليدرس على يد شيوخها المتون والأصول؛ فلمّا اشتد عوده العلميّ، وصفت مشاربه، وتشرّب فنون القول، ورسخت قدمه في ميدانها، ونضج فكره في جنباتها، واستقام لسانه في أسياحها، انتقل إلى نزوى- بيضة الإسلام- فجلس إلى أشياخها، وكرع من أفلاج العلم في مرابعها، وقرأ الأصول على أسماع أقطابها، ثم عاد إلى مسقط قاضيًا في المحكمة الشرعية في عهد السلطان تيمور بن فيصل، فلما حاز باعًا طويلًا في مؤسسة القضاء، انعقدت له الولاية مرةً أخرى في عهد السيد سعيد بن تيمور- وارث عرش عُمان- إلى أن وافته المنية.
إلا أنَّ هذا الشيخ القاضي محمد بن صالح الطائي لم تنقطع سيرته العطرة، ولم تندثر آثاره، وأوْرقتْ شجرته، وتفرّعت ذريته، في أبنائه الخمسة: (عبد الله وسليمان ونصر وسعيد وفاطمة)، وظهر منها النابغون والأفذاذ الذين حملوا مشاعل التنوير الوضّاءة، ونثر بنوه وأحفاده بذور المعرفة في سهول عُمان، وتوزع عطاؤهم من حدود البصرة العراقية إلى حواضر المحيط الهندي، وأزهرت ورودهم في سائر مشايخ الخليج العربي؛ وخلف من بعده خلفٌ أطاعوا الله ونشروا العلم وأينما ترجلوا اخضوضرت الصحاري تحت أقدامهم أدبًا وعلومًا وفنونًا وتحضرًا؛ فهذا ابنه الأديب الموسوعي عبد الله بن محمد الطائي الذي زرع المعرفة الأدبية ما بين باكستان والبحرين والكويت والإمارات، حتى عاد إلى عُمان بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم، وتولى حقيبة وزارتي الإعلام ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في أول وزارة تحت قيادة صاحب السُّمو السيد طارق بن تيمور آل سعيد أول رئيس للوزراء في عصر النهضة، وشارك أخاه نصر بن محمد الطائي- الذي كان يعمل في وزارة المعارف- في تأسيس جريدة "الوطن" أول جريدة عمانية حملت رسالة النهضة المباركة عام 1971، واشتهر في تاريخ الصحافة الخليجية والعربية بلقب "أول صحفي عُماني" مُعاصر. وهنا نُثبت شهادة تاريخية للشيخ حمود بن سالم السيابي رئيس تحرير جريدة عُمان الأسبق يقول فيها: "إنَّ الريادة الطائيّة ممتدة عبر الزمن ولا تُخْتَزل في الصحافة؛ بل في عشرات الأمثلة المتكررة والتي شكلت الوجدان الوطني والوعي القومي. وكما تسابقنا في مثل هذا اليوم قبل قرابة نصف قرن لاقتناء العدد الأول من جريدة الوطن وحفظنا فيما تلاه من أعداد الخبطات الصحفية للشيخ نصر الطائي عن ظهر قلب وتابعنا من نهر أعمدتها أول لقاء صحفي يجريه الشيخ نصر الطائي مع المقام السامي. وشعرنا ببرودة لبنان ونحن نرتقي مع سطور الشيخ عبد الله الطائي جبل الشيخ ومرتفعات صنين ودير القمر وهو يكتب مقاله "عائد من بلاد الأرز الشامخ" وواكبنا مسيرة الوطن وهي تكبُر مع الوطن وتنتقل مع الرائد الثالث الشيخ محمد الطائي بعد عمِّه الشيخ نصر ووالده الشيخ سليمان، من دكان صغير بمسقط إلى شقة على مدخل شارعٍ في منطقة رِوِي، والمعروف إلى الآن بـ"شارع هوندا". ثم تكبُر الشقة إلى بناية تليقُ بالوطن بجوار قصر ضيافة الغبرة.. ولنشهد مع الرائد الثالث الشيخ محمد الطائي الجمهورية الصحفية الثالثة، وقد أصبح لها مقرها الدائم ومطبعتها التي كفتها عناء الطباعة في لبنان فمصر فالكويت فمطابع جريدة عُمان بروي". (انتهى الاقتباس)
ومن المُحزِن أن الآثار الشعرية للشيخ القاضي محمد بن صالح الطائي اندثرت، وضاع الكثير من إنتاجه الأدبيّ لعوامل شتّى، وقد ورد ذكره في كتاب «أبو اليقظان الحاج إبراهيم: سليمان الباروني في أطوار حياته- الدار العمانية- مسقط 1956م»، وعثرنا على أول ترجمة أدبية لمسيرة حياته الأدبية عند محمد بن راشد الخصيبي: في كتابه: «شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عُمان - وزارة التراث القومي والثقافة - مسقط 1984» وقد أثبت للشاعر القاضي بين دفتيه قصيدة واحدة، تتكون من سبعة عشر بيتًا، «نظمها في تحية واستقبال موكب الباروني باشا (المجاهد الليبي)، يمدح فيها شجاعته وبطولاته الحربية وقدرته على التصدي للقوات الغازية، والقصيدة تتسم بسلاسة اللغة وطلاقة التعبير وبساطة التراكيب، فيها بعض مبالغة وتنزع إلى التقليد في معانيها وصورها»، كما أثبت «سعيد بن محمد الهاشمي ترجمة وافية الأركان في كتابه: غاية السلوان في زيارة الباشا الباروني لعمان، مطابع النهضة (ط 1) - مسقط 2007»
ونورد هنا أبيات قصيدته اليتيمة:
(1)
أهلا بليث الجحفل الجرّارِ
مُرْوي العِدا بحُسامه البتَّارِ
(2)
أهلا بمنصور اللّوا عالي الذّرى
جلدٍ لكل كريهةٍ صبَّار
(3)
كهفِ الندى غيثٍ إذا ضنَّ الحيا
جادت يداه بديمَةٍ مِدْرار
(4)
أهلاً بمن شهدتْ له أعداؤُه
والريُّ مثل الوابل الفوّار
(5)
حتى غدوا من بأسه في حسرةٍ
وتشتُّتٍ وكآبةٍ ودمار
(6)
فلئن أُتيح لهم مرامٌ في الذي
قد أمَّلوا بسوابق الأقْدار
(7)
لم يطمئنُّوا آمنين فإنَّما
تحتَ الرماد بقيَّةٌ من نار
(8)
إيهٍ بني الطّليان كيف قراركم
في أرض قومٍ كالأسود ضَوار؟
(9)
آل البَروني شدتم صرح الهُدَى
ورفعتُمُ منه رفيعَ منار
(10)
فخرًا سليمان بن عبدالله قد
بَهَرَتْ صفاتُك ناظمَ الأشعار
(11)
حُيِّيتَ يا بطلَ العُلا من زائرٍ
اِنزلْ بخير حِمًى وخير مزار
(12)
هَذي عُمانُ دارُ قومِكَ طالما
غُبطت نفوسٌ فيك مذ أعصار
(13)
شَرُفَتْ سمائلُ إذ نزلتَ بسوحها
بجوار فخر العرب خيرِ جِوار
(14)
أعني إمام المسلمين محمّدًا
عينَ الزمان وصفوةَ الأبرار
(15)
من بعدما شرّفتَ مسقط نازلاً
بحمى مليكٍ سيِّدٍ مِغْوار
(16)
هذا وخيرُ صلاةِ ربّي دائمًا
لنبيِّه وحبيبهِ المختار
(17)
والآلِ والأصحابِ ما سجعتْ على
فننِ الغُصون سواجعُ الأطيار
في هذه القصيدة الشيخ القاضي محمد بن صالح بن عامر الطائي لم يكن بالمُغالي، ولا المُبالغ فقد انتصف لشخصية سليمان الباروني، وعرّج على حياته العلمية والسّياسيّة، وأشار إلى آثاره الأدبية، ودوره في صياغة التاريخ السياسي للأمة، ونضاله ضد الطليان وتأسيسه أول جمهورية عربية، ونوه إلى دوره الإعلامي والثقافي، وأشار إلى أفكاره الإصلاحية ومدى تأثيره في إيقاظ الهمة في وعي الأمة تحت مظلة الخلافة العثمانية، ثم تحدث عن رحلاته الجهادية ما بين مصر وفرنسا وتونس ومسقط وبلاد الهند؛ غير أن المرحلة العُمانيّة في حياة الباروني لو اكتملت في عين حياته لتغير وجه الخليج العربي، وسرت في جسد العروبة من المحيط إلى الخليج أمواه كثيرة خاصة وأن الرجل كان على مراسلات عميقة الأثر والتأثير مع كثير من الأئمة والسلاطين، وترك من الآثار العلميّة ما قد يكون كفيلا بإعادة ترتيب الحياة العربية وخلع أرديتها القديمة والانفتاح الفكري على الأمة الإسلامية في جميع أطراف البسيطة والإذن ببدء مرحلة جديدة من الوحدة الإسلامية الجامعة.
وفي الأخير.. يمكننا القول إنَّ هذا الشيخ القاضي محمد بن صالح الطائي بارك الله في نطفته، وأورث أولاده من بعده جذوة أدبه وشعره المشتعلة فقادوا مسيرة التنوير في مرحلة جِدُّ مؤثرة من تاريخ سلطنة عمان، وساهموا مع أقرانهم من أهل عمان في الانتقال بها إلى عصر الحداثة، وخلفوا آثارًا ستبقى أبد الدهر سطورًا مضيئة في جبين التاريخ، ومصدر فخرٍ وإعزازٍ لكل عمانيّ، وخاصة من الأجيال المتاعقبة من الطائيين وأنسالهم التي أخذت على عاتقها مسؤولية الارتقاء بالفن الصحفي والأدبي وتطويره وفق إحداثيات العصر الجديد.