الحلانيات كوريا موريا.. ذاكرة مكان (3- 3)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

كان بالجزيرة عددٌ قليل جدًا من الشيوخ، أحدهم إمام المسجد، وعددهم جميعًا مع نسائهم وأطفالهم في حدود المئتين حينها، وكان الشيخ عبدالعزيز (أبو فيصل) لطيف المعشر ومحدثًا لبقًا، حديثه لا يُمل منه ولديه الكثير ليرويه؛ سواء عن الجزيرة وأحداثها، أو عن سفراته مع والده إلى إفريقيا وغيرها، وإخوانه الستة كذلك وبعض الشباب من العائلة الذين كانوا يتسابقون لخدمتنا وإبريق الشاي الجمري الضخم يتوسطنا.

للأسف الليل لم يكن قمريًا، لكن النجوم قامت بالتعويض وأضفت على المكان سكينة وشاعرية، ولو كنت أمتلك أدنى قريحة شعرية لقلت مُعلقةً في وصف تلك الليلة الاستثنائية بحق، ببيئتها وتضاريس طبيعتها الجميلة، وتلك الوجوه السمر الطيبة لأبنائها، التي تشع منها طيبة دافئة تشكل حاضنة لمخاض شعري وأدبي. تمنيتُ فعلًا أن لا تأتي الطائرة إلا بعد أسبوع لأُشبع مُتعتي بالبقاء في الجزيرة. وقد لاحظنا بعد تجهيز الشاي حركة من قبل عدد من الشباب، حملوا بنادقهم وتعبأت ترامسهم (بالشاهي)، كما لازالوا مُصرّين على تسميته من الإبريق الكبير، الذي بدوره أصر على أن لا ينقطع إدراره منه، تواكبًا مع كرم أصحابه، وودعونا على أمل اللقاء قبل سفرنا.

قلنا: إلى أين؟ قال الشيخ: سيقومون بواجب الحراسة، فقلنا: أي حراسة يا شيخ؟! نحن في وسط المحيط، من سيأتي إليكم هنا؟ قال: إنِّه الواجب وأمانة الوطن، وهذا ما نقوم به كل يوم، يذهب عددٌ من الشباب إلى القمة للحراسة والمراقبة؛ سبحان الله الاحتياط واجب. قلنا: نعم الاحتياط واجب يا شيخ، لكن ما تقومون به يتجاوز ذلك؛ إنه مشقة من غير داعٍ لها، وهل طلب أحد منكم ذلك رسميًا؟ قال: لا، قلنا: لو الجهات المختصة رأت لذلك داعيًا فلن يُعيقها وضع حامية ولو لمجرد الربط والاتصال الأمني، وإذا كان لا بُد فليبق اثنان من شبابكم ساهرين على سطح بيت ناحية الشاطئ للمراقبة، ولديكم جهاز لاسلكي. ثم إن صاحب الجلالة عندما أمر بتوظيف كل أبنائكم بوظيفة حارس، ليس المقصود أن يتعبوكم؛ بل لإعانتكم ماديًا تقديرًا لموقع الجزيرة. وهذا معمول به في كثير من النيابات النائية، أنتم في عصر النهضة، عصر صاحب الجلالة. فرددوا جميعًا: الله يحفظه.

كنتُ قد قرأت تحقيقًا مصورًا لمجلة العربي الشهيرة التي تصدر فصليًا من الكويت، أجرته في العام 1975 عن جزر الحلانيات، كعادتها فى تحقيقاتها عن المدن العربية المميزة فى كل عدد. وقد ذكر اسم «عوفيت» شقيق الشيخ في التحقيق، فسألته عن ذكرياته تلك، فما كان منه إلا أن استشاط غيظًا قائلًا إنَّ ما ذكره المُحقق سليم زبال الذي زارنا مع المصور كذب وافتراء؛ إذ ذكر أننا نبني بيوتنا بعظام الأسماك الكبيرة، ولا أدري من أين أتى بهذا الكلام؟! ولو رأيته مُجددًا لمسحت به الأرض، فأصلا هو اسمه «زبال»، ماذا تتوقعون منه. أكرمناهم وينقلون عنَّا معلومات كاذبة. قلت له: لعله ذكرها من باب شد القراء، وهذا أسلوب صحفي يتبع، وأنا شخصيًا استمتعتُ بالتحقيق. أما موضوع عظام السمك، فحتى نحن في صلالة يُتداول لدينا أن بعض بيوت حاسك تستعمل عظام الحوت العملاق كعمود، وهذا مبعث فخر لكم، فأنتم قلة وتعتبرون عائلة وسط محيط، وعشتم بها وحافظتم عليها، وهذا هو الفخر نفسه.

لفت نظري عدد من الأطفال يلتصقون بالشيخ، ويستمع لهم ويوشوش في آذانهم ويحتضنهم. قلنا: كلهم أبناؤك يا شيخ عبد العزيز؟ قال مبتسمًا: نعم أبنائي لكنهم ليسوا من صلبي. قلنا: أكيد، كلكم أسرة وأنت أبو الجميع. قال: هؤلاء ماتت أمهاتهم أثناء ولادتهم في ظاهرة لا نعرف لها سببًا، وقد أرسلت الحكومة لجنة طبية متخصصة لدراسة الحالة، لكنها لم تتوصل لسبب محدد حتى الآن. وقد أمر صاحب الجلالة بتولي تكاليف زواج كل من توفيت زوجته، وكل من يرغب في الزواج من شباب الجزيرة، بشرط أن يتزوجوا عُمانية من المناطق المجاورة مثل حاسك وسدح وغيرها، أو أي عمانية. ونأمل في عثور المختصين الطبيين على حل لهذه الظاهرة، فقد أخذوا عينات من الماء الذي يتوقعون أنَّه السبب. قلنا له: يا شيخ، بعد أن رأينا الجزر اليوم، وشاهدنا مباشرة مناظر الخيص الشاطئية الجميلة؛ سواء على الأرض أو من الجو، بدت لنا فكرة استغلال بعض المواقع بها، ابتسم قائلًا: الحكومة تعرف كل شيء أكثر منِّا، وما فيه الصالح للوطن، ونحن تحت أمر السلطان والحكومة. ونحن كنَّا بخير سابقًا ولاحقًا، فهذه المنطقة تكون صعبة في الخريف، حتى الطائرات المروحية والعسكرية الصغيرة تجد صعوبة، والبحر يكون هائجًا؛ حيث ملتقى تيارات، فلا يصلح إلا للسفن الكبيرة. قلنا له: فهمنا أنكم الآن بألف خير، فهل كنتم كذلك سابقاً كما تفضلت؟ قال: نعم والحمد لله.

زمان كنَّا مركز عبور للسفن القادمة من الشرق، من عدن وغيرها، وتأتينا السفن من صور لشراء الأسماك المجففة، ونشتري منهم المواد الغذائية والملابس وغيرها، وأيضًا من مرباط وسدح، وكان لوالدي سفينة ليست بالكبيرة، ولكننا نبحر بها إلى اليمن والمناطق القريبة من إفريقيا. وقد سافرتُ برفقته، نحمل من الجزيرة السمك والسيسان المجفف ونبيعه ونرجع بالخير وما يسد استهلاكنا، ثم إن السفينة الإنجليزية التي كانت تحمل سماد الطيور من جزيرة السودة تأتي لنا بكميات من الأغذية كالسكر والشاي والطحين والمعلبات، حتى الكبريت والإبر تكفينا لفترات طويلة.

حطت طائرة "السكاي فان" العسكرية الصغيرة صباح اليوم التالي، فركبناها مع بعض السكان ممن لديهم مراجعات في مستشفى صلالة، أو مصالح. ورجعنا مُحملين بكمية من الأسماك الطازجة والمجففة. وفي المطار رفض زملائي في الرحلة أخذ أي منها، فأهل الأرياف كانوا لا يميلون لأكل السمك، وما زال عهدهم به قريبًا، فوزعتها على الأهل والجيران.

*****

إهداء

الى روح رفيقيّ الرحلة الرائد عامر قطن والنقيب علي المعشنى (أبو صادق) وروح مضيِّفنا الشيخ الكريم عبد العزيز الشحري.. رحمهم الله جميعًا بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته.