الطائيون القضاة الشعراء (7)

الشيخ حمد الطائيّ.. «سليل الشعراء وجوهرة الأدباء» (7)

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

مع خطاب السلطان قابوس يوم التاسع من أغسطس عبر أثير الإذاعة العُمانية عام 1970 وتعيينه عمّه السيد طارق بن تيمور رئيسًا للوزراء- رحمة الله عليهما- ومقولته الشهيرة «عفا الله عمَّا سلف»، متصالحًا مع الماضي مدركًا أسبابه ومتفهماً لدوافعه، صرَّح بها حينها في حوار نشرته جريدة النهار اللبنانية قائلًا: «أسباب الثورة في الماضي كانت مشروعة؛ كانت ثورة على التخلف والجهل. لم تكن هناك من وسيلة للتعبير إلا حمل السلاح والعنف. اليوم تغيرت الأمور بدأنا نوفر فرص التنمية ساعين للتعاون مع النَّاس فاتحين أبوابنا للشكاوى.. إن اقتلاع أسباب الثورة يحتاج إلى أضعاف وقت نموها».

وقد دعا السلطان قابوس- وقتذاك- أول رئيس لحكومته الوليدة السيد طارق بن تيمور «أن يتخذ الخطوات الفورية لتشكيل حكومة على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللائقين حيثما وُجِدُوا، في الداخل أو في الخارج»؛ من أهل عُمان في الداخل والخارج والتشمير عن ساعد الجد، والمُساهمة في بناء النهضة، فتجمعّت الأملاء وتضامّت، وتوافقت الأهواء وانتظمت لآلِئُّ الدُّرر العمانية في سلك النهضة، وكان السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- واسطة العقد؛ فترادفت الأيادي الماهرة، وتشاورت البصائر الزاهرة، وتضافرت العزائم مشمّرة، وكان الشيخ حمد بن عيسى الطائيّ رجلا من عتاق الوجوه الكرام أصلاً وفعلاً، لازمته العزّة، وانبسطت بين يديه الرؤية، وانقادت إلى زمامه النعمة واتصلت بهمته؛ فصار حبلها معقودا بمودته، وميثاقها غليظًا بمحبته فتولى "دائرة العمل" بضع سنين، ولم يكن من الموظفين معه في الدائرة سوى 3 فقط وهم: محمد يوسف وداود علي عمر وحمد بن مبارك المعشري. ثم تتابعت التعيينات في دائرة العمل، فعُيِّنَ الشيخ شماس بن حمود البطاشي، وعبد الرحمن البلوشي من حارة الشمال، وعلي بن مسعود الريامي، وأحمد بن ناصر الرحبي، ونايف عبيد السلامي.

فلمَّا عزم السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- على تطوير المطابع السلطانية، والتي تمّ استبدال مسمّاها فيما بعد إلى المطابع الحكومية، لم يجد غير الشيخ حمد الطائي لهذه المُهمة، الذي اختار مكانًا حيويًا لها في منطقة روي مُقابل مركز الشرطة؛ فنهض بها وطوَّر نظام العمل فيها، وتوسّع في تحديثها، لا يتغلغل في نفسه ملل، يرسم الخطط، ويؤسس هيكلها الإداريّ ويؤثث بنيتها التحتيّة بأحدث ماكينات الطباعة العصرية، ويجلب لها أفضل الكفاءات الفنية، ويقف على رؤوسهم لرسم الأهداف وتحقيق الغايات، يأتيها كل يوم مع انبلاجة الفجر، وينصرف من ساحاتها إذا دجا الليل وأظلم، يُجبر ما انكسر، ويشدُّ كل مهيض لا يندمل.

ولأن الشيخ لديه خبرة طويلة في مجال الاستثمار، وإدارة الشركات تحصّل عليها ما بين إمارتي (دبي- مديرا لشركة مواد البناء الكويتية)، و(أبوظبي- مستشارا بوزارة المالية)، فقد حرنت به فرسه، وجمحت به سجاياه، فألقى لجامها على غاربه، وانطلق بها في الفجاج الواسعة، وقرأ صفحات مستقبل سلطنة عمان المفتوحة في كتاب الأمم المتقدمة، وما تحمله للشعب العمانيّ من انفتاح اقتصادي على العالم، وتواصل حضاري مع سائر الثقافات؛ فارتأى أن يؤسس (مجموعة شركات استثمارية عابرة للحدود ومتعددة الأنشطة)؛ تحت علامة تجارية شهيرة ذات خلفية تاريخية وتراثية فاختار اسم "الفيحاء" إشارة إلى موطنه ومسقط رأسه؛ ليكون اسماً لشركته الوليدة؛ غير أنه لم يكن مسموحًا آنذاك للموظفين بتأسيس أعمال تجارية خاصة، فبدأ بتأسيس مكتب صغير يتكون من حجرة واحدة في ولاية مطرح بجوار سوق السمك واستوظف صديقًا أردنيًا ليقوم بدور مُدير المبيعات؛ وهو الفاضل مأمون الجندلي، كان قد التقاه واختلط به وخبر صفاته أيام اغترابه في دبي، وانضم إليه لاحقًا الفاضل حمد بن مبارك المعشري ليتولى دائرة التحصيل بالشركة مقابل نسبة مئوية خصصها له الشيخ بعد أنّ قدّم استقالته من دائرة العمل، وحلّ محله الشيخ عامر بن شوين الحوسني، ولم تكن سلطنة عُمان في هذه الفترة تعرف ما يسمى بالسجلات التجارية، ولم يتم تنظيم العمل بها إلا في عام 1974م.

ثم بدأت شركة الفيحاء المملوكة للشيخ حمد الطائي تتوسع في نشاطها بتجارة الأسمنت والحديد ومواد البناء، وأسس مقرًّا لها مطلًا على منطقة واسعة مُترامية الأطراف في روي مقابل سوق الوادي الكبير، ولمّا توسعت أعمالها، استأذن الشيخ حمد- رحمة الله عليه- السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- في مُغادرة الوظيفة الحكومية والتفرّغ لريادة الأعمال، وتطوير شركة تجارية كبرى ذات أذرع تنموية تخدم السلطنة، وتفتح الآفاق لبناء قطاع خاص وطني خالص لا يخضع لإملاءات الأجنبي، ولا يذعن لاحتكارات السوق العالميّ؛ فجاءته المُوافقة بعد حين من الدهر؛ فترك العمل الحكومي وتفرَّغ لأعماله التجارية.

وفي منتصف السبعينيات- تحديدًا عام 1975- انطلقت شركة الفيحاء سريعًا؛ فقد كانت تقطع السنوات في أيام وسويعات، إنها ماكينة من العمل الدؤوب لا يتوقف هدير محركها عن الدوران، ولا يركن مديرها إلى التراخي والاستكانة والاسترواح، وتسارعت خطاها أكثر وأكثر، بعد سماح السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- للشيخ حمد الطائي بمُغادرة كرسي الوظيفة الحكومية، والتفرّغ للعمل التجاريّ، لتنتقل الشركة في هذه المرحلة من كونها وكيلًا تجاريًا لبيع مواد البناء إلى مؤسسة تطوير عقاري ومجموعة شركات متعددة الأنشطة، وبدأت في الدخول إلى سوق المقاولات والبناء، والاستيراد المباشر، لمتطلبات التشييد من خامات الحديد والأنابيب من دولتي الهند وكوريا الجنوبية، واستقدام "خشب التيك" من بورما (ميانمار حاليًا)، وتوسّعت أعمالها في سائر الولايات.

قاد الشيخ حمد الطائي سفينة الفيحاء بحزمة من الأخلاق الرغيبة، وأدار دفتها بمهجة روحه، وبذل كل نفيس وغالٍ من دم قلبه وراحة بدنه؛ يغشها إذا انفلق الإصباح، ويؤانس ملائكة النهار إذا سكنت الشمس كبد السماء، ويسري راجعا إلى عُشّه إذا نزلت الظلماء، لا يعرف للراحة سبيلا، ولا يجد الترف المتلبّس بالدعة والفراغ في ذراه حضنا دافئًا إذا دثر مال الأرباح وتناثر وزخر بحر الثراء وطمى موجه الهادر، لا يرد معوزا، ولا يستعجل معسرًا، ولا يحتكر سلعةً في أيام الأعياد والأفراح والمعازي والأتراح، وغيرها من المناسبات.

وفي العام 1977، توسعت أعمال البناء والتشييد في سلطنة عُمان، وبدأت الدولة تقطع رؤوس الجبال، وتسوي الهضاب والتلال لشق الطرق، وتوزيع الأراضي على المواطنين بدأت تدخل إلى السوق شركات تعمل في قطاع المعدات الثقيلة؛ فعرضت "مجموعة الفيحاء"، اتفاقية شراكة استراتيجية مع شركة الواحة للمعدات الثقيلة (كاتربلر)، والتي كان الشيخ سعود بن علي الخليلي- رحمة الله عليه- يمتلك فيها حصة مقدارها 49 بالمئة، و6 في المئة للشيخ حمد بن عيسى الطائي، و45% لصالح (مجموعة البحر الكويتية) لتساهم في تنمية وإثراء هذا القطاع المتنامي.

ومع بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين اقتحمت "الفيحاء" السوق الخليجي، ودخلت في شراكات استثمارية مع مجموعة كويتية لتتخصص في استيراد اللحوم الحيَّة والماشية لصالح السوق الخليجي، بالتعاون مع دول عديدة كانت في مقدمتها جمهورية الأرجنتين، ثم أستراليا لتوفير اللحوم بأسعار رخيصة تتواكب مع الزيادة السكانية المتنامية فهيأت الفيحاء أراضٍ زراعية واسعة لاستزراع نباتات وصناعة أعلاف الماشية، وابتنت حظائر ومسالخ على مساحة من الهكتارات الواسعة في ولايات: صحار ومسقط، والجفنين، وإبراء ونزوى، وأثثت متاجر لبيع اللحوم توزّعت على سائر الولايات العُمانية، واتسعت رقعتها وازدهرت وتنامت أرباحها، وعلا شأن أصحابها، وطارت قصصهم فعمّت الآفاق، وانتشرت أخبارها في سائر الأسواق.

وأثناء مسيرة "الفيحاء" الناجحة ما بين عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وقعت في شراك المُغرضين، وتربص بها الحاقدون، وتعرضت لعمليات نصب دولية كبرى كانت إحداها بواسطة شركة يونانية انتهبت من رصيدها نصف مليون ريال عُماني في قضمة واحدة، مُقابل توريد (شحنة من الأسمنت)، وتبين لاحقًا بالأوراق والمستندات أنَّ الشحنة ذاتها مباعة لوكلاء تجاريين في 3 دول أخرى، وذهبت الأموال أدراج الرياح. ومن اليونان إلى الهند وقعت الفيحاء في فخاخ الاحتيال مرة أخرى عبر شركة تسمى "بادولان" قدّمت وثائق مزورة للمحاكم الهندية لتتهرب من الوفاء بتصدير شحنة حديد بلغت قيمتها 20 ألف ريال عُماني.

ورغم هذه الكبوات، والخسارات التي تترى، والعثرات التي تتجدد وتتعاظم وتعترض طريق "شركة الفيحاء" في مسيرتها الإنمائية إلا أنها- بفضل أعمال الخير المُعلنة والخفية التي تبذلها قيادتها- صارت في تسعينيات القرن العشرين من أكبر المجموعات الاقتصادية مكانة في السوق، وأبرقت علامتها التجارية لتصبح نجماً لا يخبو ضوؤه، ولا يأفل نجمه، ولا تغيب شمسه وتوسعت أنشطتها الاستثمارية لتضم 21 شركة داخل سلطنة عمان.